العدالة الآن

25 أكتوبر 2016
"ثلاثة أولاد فلسطينيين"، مروان قصّاب باشي/ سورية
+ الخط -

عندما أنهى المؤرخ الفرنسي رينيه أوبير فيرتو كتابه عن "حصار مالطا" أُشير عليه بوجود وثائق للاستعانة بها ليدعم روايته وينقّحها، فأجاب بأن ذلك أصبح متأخراً لأنه أتمّ حصاره. فالحصار خرج من يده لمجرّد أنه انتهى منه. الإهمال أبسط ما ينال من الحقيقة، ولو كان عن كسل. ماذا لو كان الحصار معرّضاً لما يزيد عن الإهمال، بالتزوير والتزييف والإخفاء والتجاهل؟ الأكثر إشكالية إحالته إلى شيء آخر، ربما إلى نقيضه.

يجد بعض المؤرّخين في الوثائق عقبات تعيقهم عن كتابة تاريخ لا تقيّده الحقائق، قد يرغبون في تاريخ يسرحون فيه على هواهم. هذا في حال حسن النية، فيجدون في التحرّي والتقصّي والتوثيق عقبة، لا تسهّل عملهم، فالوصول إلى أكبر قدر من الحقيقة ليس الغاية، ولم يكن الهدف. بالنسبة إليهم، لماذا الحقيقة؟ ومن يهتم بها؟ العالم في غنى عنها.

ما يجري في هذه الأيام يسير على هذا المنوال وأسوأ، ما نراه وما يوثّق بالصور وبشهود العيان والجثث والدماء. تعمل على تكذيبه بكل جسارة دول تورد روايات أخرى تتجاهل الواقع المحتقن بمآسي ملايين البشر ودونما رادعٍ، حتى أن دول الاستبداد تستعين بشركات علاقات عامة مختصّة بتجميل الشر، وتصوير العذابات على أنها نتاج أخطاء الضحايا.

تقصف الطائرات الروسية المدنيّين في حلب وتقتل الأطفال ليل نهار، الطائرات نفسها تقصف شاحنات المساعدات، ومن قبلها كانت وما زالت البراميل المتفجّرة تُرمى على الأفران والمستوصفات، بينما رؤساء بلدان يُنكرون هذه الجرائم على الرغم من أن الوقائع الموثّقة على الأرض وفي السماء، تؤكّد أن العمليات مقصودة، لم تحدث نتيجة خطأ في الإحداثيات. لذلك لا عجب في نُكران صورة عمران الناجي من القصف. وما نشر صورته على الصفحة الأولى لمختلف جرائد العالم إلاّ شهادة على الإجرام الوحشي الممارس ضد الأطفال، بينما المجرمون أنفسهم يقنعون العالم بأنها دعاية سياسية، ويزعمون أنها مفبركة، الإنكار يتجاوز الكذب إلى الخداع عن عمد.

إزاء هذه الموجة الطاغية، تُرى كيف سيكتب مؤرّخون تاريخ هذه الحقبة السورية، بينما حركة السياسة الدولية تلفّ وتدور وتتجنّب الجانب الأكبر مما يجري وتذهب إلى تبرئة الجناة، والتركيز على الإرهابيين المتطرفين، وتتغافل عن جرائم النظام، مع أن المشهد لا يكتمل إلاّ بالنظر إلى الأصل، فالإرهابيون لم يأتوا من فراغ، ولا من الدين، أو من خارج البلاد فقط. بل جاؤوا من الاستبداد والقمع والسجون.

ليست قصة الحقيقة المغيّبة، ولا صراع الحقائق والأكاذيب، ولا في انتفاء ما يضطر المجرمين إلى الاعتراف... ففي ساحات القتال يسود السلاح، وإن وقف عاجزاً أمام الحقائق. بينما في ساحات الإعلام يتجنّد الكذب للتشكيك بالجرائم، ويُوظّف ضد المآسي والشقاء، ويُمارِس الطغيان السافر إرضاءً لدولٍ مستبدة وطموحات إمبراطورية... العدالة الآن، ومن الظلم أن تترك الحقيقة للتاريخ فقط، إذ حتى العدالة تفقد معناها.


المساهمون