عمر السيّد: أعشاب ناس الغيوان لم تجف

02 اغسطس 2015
"بيتلز ناس الغيوان"، رشيد ويلكايد
+ الخط -

في ستينيات القرن الماضي، كان على الراغب في اعتلاء منصّة الغناء في المغرب، أن ينحاز إلى إحدى الاختيارات الفنية الموجودة سلفاً، ومن داخلها عليه أن يدشن مسيرته الغنائية ويحقّق نجاحه داخل حدودها، ومن أبرز التيارات التي كانت معروفة، الأغنية المشرقية المصرية، والأغنية المغربية الأصيلة التي تستخدم اللهجة العامية المدنية، ثم أغنية الموروث الشعبي.

كان من الصعب في ظل هذا التقسيم أن نجد لوناً غنائياً آخر، وحتى إن وُجد فلم يستطع تحقيق تيار غنائي، لكن مع مطلع السبعينيات تشكلت فرقة غنائية أطلقت على نفسها "ناس الغيوان" وبوسائل بسيطة، تجاوزت موسيقاها حدود المغرب، بل وصلت إلى العالمية.

في لقائه بـ"العربي الجديد"، يفتح الفنان عمر السيد ذاكرته (وهو أحد مؤسسي ناس الغيوان، والمسؤول عن مسيرتها منذ البداية إلى الآن)، يستحضر تاريخ الفرقة ويفتقد رفاق الرحلة.

يبدأ السيد حديثه قائلاً: "بداية القصة كانت من الحي المحمدي (أحد أكبر الأحياء في مدينة الدار البيضاء)، هذا الحي الواقع على مشارف منطقة صناعية كبرى، استقطب مئات العائلات من مختلف ربوع المغرب، هناك كان القاطنون للحي يمارسون طقوس الحياة التي يجلبونها معهم من أماكن بعيدة، من تراث وموسيقى وفن وكوميديا، وكنا نحن نتشرّب هذا المزيج الفني، وعندما انتقلنا إلى العروض الحية وجدنا أنفسنا نجمع بين المسرح والغناء بما يُعرف بمسرح البساط، وهو مشاهد تمثيلية تتخللها فواصل غنائية تمتح من التراث والأهازيج".

يضيف السيد: "كل أفراد الفرقة التي ستسمّى لاحقاً "ناس الغيوان" كانوا ينتمون إلى فرق مسرحية؛ العربي باطما انطلق من مجموعة "الهلال الذهبي"، وكنا أنا وبوجميع واليحياوي ومطراز ننتمي إلى فرقة "رواد الخشبة".

وفي هذا الوقت، كان المسرحي المغربي الطيب الصدّيقي مديراً للمسرح البلدي في الدار البيضاء، وعندما وصلته أصداؤنا اتصل بنا جميعاً، لأنه كان مهتماً بهذا النوع من المسرح، وانتقلنا في هذه المرحلة مع الصدّيقي إلى مسرح الاحتراف، وأدت الفرقة معه مجموعة من المسرحيات مثل "عبد الرحمان المجذوب" وغيرها، بالإضافة إلى المسرحية الأهم "الحراز". وقمنا بعدة جولات في تونس والجزائر وفرنسا، وبعد العودة من جولتنا، أسّسنا المجموعة المعروفة بـ"ناس الغيوان" سنة 1970، التي سمّاها البعض الدراويش الجدد".

كان المسار الفني لـ"ناس الغيوان" جريئاً منذ بدايته، فبالإضافة إلى اختيارهم لمضامين غنائية خاصة بهم، وجدوا أنفسهم مرغمين على توفير آلات موسيقية توافق كلمات أغانيهم، فوقع اختيارهم على آلات لم تكن تتمتع بأية حظوة في الوسط الفني. يعود السيد إلى هذه النقطة:

"أردنا منذ البداية أن نردّ الاعتبار إلى آلات موسيقية مغربية أصيلة، كان علينا أن نجد منها ما يناسب توجّهنا الغنائي، فوقع الاختيار على "الطبل" و"الهزاز" و"البندير".

حينها لم يكن الذوق العام ينظر إلى هذه الآلات بإيجابية، لأنها لم تكن تتمتع بنفس شعبية وانتشار العود والبيانو والكمان. ومن جهة ثانية، لأنها آلات تخص البيوت، حيث كانت النساء تستخدمها في الحفلات والأعراس، فالبندير مثلاً آلة لم يكن من اللائق للرجل أن يعزف عليها لأن الفرق الموسيقية النسائية (الشيخات) تستعملها. ثم استخدمنا آلة السنتير رغم أنها آلة أفريقية الأصل. وبعد النجاح الذي وجدته "ناس الغيوان" تغيّرت نظرة الناس إلى هذه الآلات الموسيقية بشكل جذري".

من أهم عوامل نجاح "ناس الغيوان" أن أغانيهم كانت تبحث في التراث المغربي الأصيل، وكانت جامعة لفنون مغربية عديدة؛ العيطة وكناوة وعيساوة والأغنية الصحراوية. هذه الروافد التراثية جاءت بحسب السيد صدفة، يقول:

"كنا نقطن الحي المحمدي الذي يمكن اعتباره "مغرباً مصغراً"، لأنه حي صناعي وكان يستقطب اليد العاملة من مختلف جهات المغرب، لذلك ستجد أن كل واحد منّا هو امتداد لتراث معروف، بوجميع من نواحي طاطا من جنوب المغرب، علال قدم من أولاد برحيل، العربي باطما من منطقة مشرع بن عبو (نواحي سطات)، بالإضافة إلى قدومي من قبيلة إيدوسكا ناحية أيت باها بسوس. وكنا نتشبّع بهذا المزيج بشكل تلقائي، فكل فرد من أفراد المجموعة كان يمثل موسيقى جهة من جهات المغرب، وهذا ما جعلنا نستمر".

كان السيد هو العنصر الثابت في "ناس الغيوان"، إذ شهد ميلاد الفرقة ولا زال مشرفاً عليها إلى الآن، استطاع احتواء اختلاف الأمزجة والأفكار، وكانت الفرقة تحتضن أفراداً بعضهم غيّبهم الموت، أو الظروف الصحية، والبعض رحل لظروف أخرى.

يقف الرجل الآن ويستحضر رفاق المسيرة، ويحكي لحظات اللقاء والفراق قائلاً:

"الفرقة كانت ثابتة بعناصرها المعروفة؛ بوجميع والعربي باطما وعمر السيد بالإضافة إلى مولاي عبد العزيز الطاهري، ثم التحق بنا محمود السعدي الذي غادر "ناس الغيوان" بعد أشهر وأسّس مجموعة "جيل جيلالة"، فعوّضه علال يعلى، ثم التحق الطاهري أيضاً بـ"جيل جيلالة" لأنه كان يجد نفسه في فن الملحون الذي كان ضمن مضامين الأغنية لديهم، بينما استقدمنا نحن لذات السبب عبد الرحمان باكو لأنه وجد لدينا مساحة لأداء فن كناوة.

استقرّت فرقتنا على خمسة أسماء، بين 1971-1974، وبعدها غيّب الموت بوجميع، سنة 1974، ولم يعوّضه أحد حتى سنة 1993، ثم غادرنا عبد الرحمان باكو، وبعده أصيب العربي باطما بالسرطان فلم يعد بإمكانه الغناء فعوّضه شقيقه رشيد باطما ثم حميد باطما، بعد ذلك لم يعد باستطاعة علال يعلى اعتلاء منصّة الغناء فتوقف وعوّضه تلميذه شفاء عبد الكريم، وهذه الأسماء هي التي استمرت إلى اليوم".

وجدت الأغنية الغيوانية طريقها إلى قلوب الناس، بمضامينها السياسية، رغم قساوة الفترة التي ظهرت فيها المعروفة بـ"سنوات الرصاص"، هذا ما جعل تشكيل المعنى/ المضمون أمراً صعباً، لذلك كان إنتاج المعاني وإيصالها يتم بشكل استعاري وخفي زاد من عشق الناس لهم وولعهم بأغانيهم.

كانت المجموعة تلتقط أحوال المجتمع، تغني، تصرخ، لكنها لم تمثل أي جهة أو حزب سياسي، البعض صنّف المجموعة ضمن الأغنية السياسية، وهناك من اعتبر أغانيها أكثر من ذلك، ومن جانبه يقول السيد:

"أنا أرفض أن تصنّف أغانينا ضمن الأغنية السياسية، نحن نغني أغنية إنسانية، لأن الأغنية السياسية تموت بسرعة بعكس الأغنية الإنسانية التي تستمر في الزمان". وعن كتابة أغاني المجموعة، يقول السيد: "كان العربي باطما هو منبع كتابة كلمات أغانينا. لقد كان كاتباً حقيقياً، يغيب لأيام ثم يعود وفي جعبته كنوز من الكلمات والمعاني".

المساهمون