هاني زعرب.. ما يليق بالعدالة

07 ديسمبر 2014
+ الخط -

بين مخيم رفح، في غزة، وباريس، مسافة سفر قد يختصرها التعبير المجازي الفرنسي، في زمن تطور تكنولوجيا المواصلات والتواصل الحديثة، بتحليق طائر (vol d'oiseau)، خصوصاً حين يتعلق الأمر بتمثل المسافات في منطق وعرف الصفقات الاقتصادية والتجارية أو السياحات المخملية العابرة للقارات.

لكن، كيف يمكن لشاعر أو روائي أو فنان أن يتمثل هذه المسافة (حقيقة هذه المرة وليس مجازاً) حين يجد نفسه وقد أصبح، بسبب قرار جائر ومتعسف اتّخِذ بمنتهى البساطة في مكاتب مكيّفة، موّزعاً، كجسد وروح، بين أرضين، بل بين قارتين، لا هو هنا ولا هو هناك؟

كيف يمكن لكائن، برهافة المبدع وهشاشته وقلة حيلته، أن يستوعب مثل هذا الاقتلاع من الأرض والذاكرة والحلم، ليجد نفسه مضطراً إلى تنفس هواء الإبعاد والنفي والشتات؟ الأكيد أن الأمر يصبح قطعة من جحيم، وقد صار له عنوان فوق هذه الأرض التي ليست لأحد.

نحاول قياس حجم هذا الألم، ونحن نستحضر حالة الفنان التشكيلي الفلسطيني هاني زعرب (1976) المقيم منذ عام 2006 في العاصمة الفرنسية باريس، التي قدم إليها في إطار إقامة فنية، سرعان ما تحولت إلى وجود عالق في منطقة الـ "ما بين"، تلك المنطقة التي تجعل من الإنسان (في حالة زعرب) مجرد رقم في لائحة انتظار، على خلفية هويته الفلسطينية الغزاوية، التي يبدو أنها أصبحت، في السنوات القليلة الماضية، هوية دمار شامل.

هذه الوضعية الجائرة، التي يتداخل فيها القدر الشخصي بالعقاب الجماعي، وتكاد تصبح عنواناً بارزاً لطبيعة القيم التي أصبحت تدوزن إيقاعات العالم، هي اختصار لغوي شديد لوضعية الفنان زعرب. إنها حالة تراجيدية بامتياز تعكس طبيعة العماء الذي بات سلوكاً طبيعياً يستقبله إنسان القرن الحادي والعشرين بغير قليل من اللامبالاة.

ولأنه ينتمي إلى سلالة "الجبارين"، لم يستسلم زعرب لهذا القدر القاسي، إذ سرعان ما حوّل بعض مرادفاته، إلى أداة تعبير فنية قادته إلى إعادة تمثل الواقع الفلسطيني وواقعه الشخصي، وفقاً لتصور جمالي يرفع من شأن اللمسة الفنية المضطهدة إلى مستوى الإشارة المحتجّة، تلك الإشارة التي لا تستثمر في الصراخ والحكي الساذج، بقدر ما تروم الانحياز إلى لغة البوح الخفيض، بما هو اشتغال هادئ ورصين على المعنى في مستوياته الدلالية البسيطة.

تلك هي خلفية هاني زعرب التصويرية. خلفية تتكئ على شرطها الجمالي الإنساني النبيل، أكثر من اعتدادها بصوابها الأيديولوجي أو بتداعياتها الحقوقية. ولعل هذا ما يجعلنا نفهم أكثر حضور تلك الكتلة البشرية الهلامية المنطوية على نفسها في مجمل أعمال الفنان ـ في ما يشبه قطعة صخر ـ والتي توهم بكونها مستسلمة لقدرها تارةً، أو منشغلة بترتيب شؤونها الخاصة تارةً أخرى.

وفي كلتا الحالتين، ثمة ما يعطي لهذا الحضور دلالات متعددة القراءة، سواء في ارتباط بتوظيف عنصر اللون (ألوان زيتية وأكليريك)، الذي يهيمن عليه اللونان الأبيض والأسود عبر تدرّجاتهما الرمادية، أو في تجريب ممكنات السند عبر ثنائية الفارغ ـ الممتلئ، أو من خلال توظيف بعض المواد التي تعطي تضاريس بارزة للعمل الفني، أو أخيراً من خلال توسّل الفنان تلك اللمسة التعبيرية التجريدية التي توهم بأننا أمام محكي مكشوف وواضح، في حين أن هذه الأعمال تبوح أكثر مما تسرد، وتشير (من الإشارة) أكثر مما تفصح.

"الأخ الأكبر يراقبك"، أكريليك وأصباغ وزفت على قماش، 200×160، آب 2014


الأكيد أن زعرب، الذي ينتمي إلى الجيل الجديد من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين والمشرقيين، استطاع، بذكائه التصوري الفذ وبحسه الفني المتأمل والمجروح، أن يخلق لنفسه مساراً تصويرياً خاصاً به، يختلف ـ بهذا القدر أو ذاك ـ عما تنتجه الذائقة الفنية المشرقية؛ سواء بانحيازه إلى اللحظة التقنية الراهنة المجددة والمتجددة، أو من خلال استثماره لأسئلة العصر، أو عبر مواكبته لما وصلت إليه اشتراطات الممارسة الفنية في بعدها الكوني.

كل ذلك يبقى في ارتباط عضوي وجوهري واضحين بتداعيات بيته الفلسطيني، وبحالته الإنسانية الخاصة، بما هي نموذج للكائن المطارد والمبعَد، وقد وجد نفسه عالقاً بين قارتين، لا يملك من تراب هذا العالم سوى قطعة قماش، هي بمثابة أرضه الأخيرة.

وفعلاً، يستشفّ المتأمل في أعمال زعرب تعريفاً للفن يجعل منه محاولة لرفع وعي الإنسان إلى مستوى ألمه.. أو حتى مستوى أمله الذي يمكن أن يكون بدوره مصدر ألم. هذا ما يفسّر تركيز الفنان على معاناته ومعاناة شعبه، وعدم مهادنته لكل ما يتعلق بالظلم والقهر والتسلّط على مصائر الشعوب. باختصار، كل ما يمكن أن يمسّ كرامة الإنسان.

في أعماله يستشف المتأمل أيضاً شعور صاحبها بقلة حيلة الفن أمام عسف الواقع؛ شعورٌ يشرح من دون شك تلك الجدّية في عمل زعرب الذي ما برح يقدّم مرافعاته ـ الفنية ـ ضد كل أنواع الاضطهاد الذي يمكن أن يتعرّض له الإنسان على يد أخيه الإنسان.

نشير أخيراً إلى أن هاني زعرب يشارك حالياً في معرض "عصيان" الجماعي الذي ينظّمه "متحف النخيل"، في مدينة مراكش، حتى 30 كانون الأول/ ديسمبر الجاري.

المساهمون