نهر المنافي

04 يناير 2023
إسماعيل الشيخلي/ العراق
+ الخط -

اليوم، عشر سنوات من الغياب المؤلم عن بلد محتل. وخلال تلك المدة، منذ صيف 2012، حتى اللحظة، لم تعد أنت ما كنت عليه، ولن تكون غداً ما أنت عليه اليوم. نهر المنافي هادر النشاط، والماء كل ساعة ليس هو نفسه. نهر المنافي هو نهر هيراقليط، بالخصوص. وجوهٌ كثيرة لم تعد معك جسديًا. جيل يسلّم الراية لمن يليه ويرحل. انفتاح زمن المراثي. بل هي ـ وُتكابر ـ روح النضال والمقاومة، وهدير الشباب المتمرّد، ودفؤهم وأصالتهم، والتزامهم بمواجهة اللامساواة - التي تحمّلوها هم أنفسهم، بسبب أصلهم المتواضع والشعبي.

كلّ هذا كان حاضرًا في النضالات والأفعال التي لا حصر لها في العقد الماضي. ناسٌ التقيت بهم مرارًا وتكرارًا في المسيرات والتعبئة والمظاهرات، وهذا هو السبب في أنك فقدت أيضًا بعض زملاء النضال المتجوّلين في الشوارع والميادين وقتَ الاحتجاج. ناسٌ بقيادة شباب من عامّة الشعب، خرجوا زمن الانتفاضة الأولى، برؤوسهم مرفوعةً وبكرامة كبيرة، وواجهوا القوى القمعية لدولة المحتل، حالمين بأفق التحرر: بالكفاح من أجل بلد آخر (هو على الأقل لائق، حيث لا يُقتل الناس مع الإفلات من العقاب على التفكير). ناسٌ، عندما يتعلّق الأمر بتذكّرهم بعد عشر سنوات، من الضروري التأكيد على أنهم لم يكونوا ضحايا فحسب، ولا ينبغي تفويتهم على هذا النحو، إذا أخذنا في الاعتبار أن كلمة الضحية محدودة للغاية وضيقة من الجانب السياسي.

أدرتَ ظهركَ وهربت... والآن هو زمن الشعور بذنبٍ لا يحول ولا يدول

لا، لم يكونوا مجرّد ضحايا، لأنهم جسّدوا مشروعًا من عالم مختلف، ولهذا السبب قاتلوا وحشدوا بوعي ـ لعدّة سنوات ـ داخل كلّ شارع وكل بيت وكل حارة، ما استطاعوا من قوةٍ لمواجهة أعتى وأحقر احتلال. لا، كانوا مناضلين ولهم مشروع، ولا يجوز اختزال أولئك الذين نسمّيهم الضحايا، إلى أشخاص لم يكن لديهم أبدًا ذاتية سياسية وذاتية راديكالية وثورية.

على العكس من ذلك، كانوا حاملين لمشاريع أخرى، ولهذا السبب يقاتلون ويُقتلون، ثم يبقون نبراساً لمن سيأتي بعدهم. ناسٌ أنت أحببتهم، لظروفهم الاجتماعية المتمثّلة في كونهم فقراء ومتواضعين، ثم لكونهم متمرّدين ولم يَقبلوا كالمعتاد بحالة الأشياء الموجودة في هذا البلد الرهيب. إنهم مذنبون بذنب التوق للتحرّر، لأنهم لم يكونوا آليين سلبيين أو مستقيلين اقتصروا على الطاعة، مثل الدمى المدربة، لما يمليه الظالمون. إنهم مذنبون لأنهم ملأوا فرح قصائدنا وشوارع مخيّماتنا، حيث ساروا في الصفوف من كلّ مظاهرة، طوال تلك السنوات البريئة المجيدة. مذنبون بصيحاتهم وضحكاتهم وأغانيهم منذ عام 1987، وهم مذنبون بالاستفسار والاستجواب والتشكيك في المعرفة المتعفنة التي أكلها العثُّ، والتي تسود في الخاطر الفلسطيني غير المسيس بتبصّر ثوري. إنهم مذنبون لربط الدراسة والقراءة بالمشاكل اليومية التي يعاني منها الطلاب والشباب وبقية المجتمع. إنهم مذنبون لكونهم في الصفّ الأول للكرامة والثبات لمواجهة الظروف القاسية للشعب.

كل هذا، أنتَ أدرت ظهرك له وهربت... والآن هو زمن الشعور بذنب لا يحول ولا يدول.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون