موسوعات الإسلام.. معرفة الآخر أم الهيمنة عليه؟

29 يوليو 2023
"المدرسة العربية" لـ جون فريدريك لويس، ألوان مائية على ورق، منتصف القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

الموسوعيّة، بوصفها مبدأً معرفيّاً، هي جنسٌ من الكتابة يستغرق حقلاً ما، ويتناول مَحاوِره الأساسيّة، من دون الدخول في تفاصيله الدقيقة. وقد ازدهر هذا المبدأ إبّان "عصر الأنوار" في فرنسا، حيث طُبّق على سائر موضوعات المعرفة البشرية بما في ذلك الإسلام، فكُتبت عنه أهمّ الموسوعات، إنْ بحجمها أو بعدَد المُشاركين فيها، إلّا أنّ المُفارقة البنيوية التي تسكن هذه المؤلّفات هي سعيُها لتحقيق هدفَين متعارضَين: الإحاطة الدقيقة بالإسلام من جهة، وتبسيط عَرْضه من جهة ثانية؛ فهي تُقدّم موضوعات هذا الدين بِهدف الشمول، لكن بأسلوبٍ تبسيطي حدّ الخلل، لأنّنا حين نُطبّق هذا التمشّي على حقلٍ واسع مثل الإسلام، ديانةً وثقافةً وتاريخاً، فإنّ صعوبات جمّة تعترض الباحثين.

وبالفعل، تصدّى العديد من هؤلاء الباحثين، مستشرقين وعرباً، منذ بدايات القرن العشرين، لتقديم الإسلام ضمن منظور موسوعي: فظهرت النسخة الأُولى من "موسوعة الإسلام" (1913 - 1938)، في أربعة أجزاء بإشراف المستشرق الهولندي م. ث. هوتسما (1851 - 1943)، ثم أعقبتها نسخة ثانية (1954 - 2005) في ثلاثة عشر جزءاً، وبدأ إنجاز الطبعة الثالثة منذ 2007.

وفي هذه الأثناء، صدرت موسوعة ثانية أوجزُ من حيث المضمون؛ هي "الموسوعة العامّة للإسلام" (1970)، بعناية ب. م. هُلْت، وأ. ك. لمبتون، وهي تقوم على تقديم المحاور الكبرى في مختلف الأقطار التي أظلّتها عصور الإسلام، وصدر بعدها "المعجم التاريخيّ للإسلام" (2004) لدومينيك سوردال (1921 - 2014) في حجم أصغر، كتبه بالاشتراك مع زوجته جانين.

خلْطٌ تام بين الإسلام حضارةً والإسلام ديناً وإيماناً

كما أصدر الباحث الجزائري طاهر قايد (1929 - 2019) موسوعة موضوعية من جُزأين (2010)، تطرّق فيهما إلى القضايا والمحاور ذاتها، لكن من منظور إسلامي داخلي، تجنّب فيه منزع المستشرقين التشكيكي والإفراط في التاريخانية، عارضاً لموضوعات الإسلام كما يراها علماؤه ومفكّروه، ومُركّزاً على محاور القرآن الأساسيّة وما جاء فيها من الآيات، ثم ما نُظِم حولها من التفاسير والآراء الفقهيّة والكلاميّة.

وسواء اتّبعت هذه الموسوعات النظام الألفبائي أو المحوري، فإنّها هدفت لتعريف العام بالإسلام ومظاهره، وليس لتحليلها المفصّل، لأنها تتوجّه إلى جمهور عريض وليس إلى المختصّين الذين يجدون فيها عموميات قد لا تفيدهم في إجراء الأبحاث المعمّقة. ولذلك تظلّ الثغرة الكبرى، في مثل هذا الإنتاج المَعرفي، الوقوع في العموميّة والرغبة في الإحاطة بكلّ شيء، وهو ما يُسفر عن نظرات سطحيّة، وأحياناً مغلوطة للموضوعات المدروسة.

ومع أنّنا لا نقول باستحالة إنجاز مثل هذه الموسوعات - وإلّا وقعنا في "العدميّة العِلمية"، وأنكرنا واقعاً ملموساً هو إنجاز العديد منها - فإنّنا نُؤمن بعُسر إجراء مَسْح جُغرافي وتاريخي كامل لكلّ شخصيّات الإسلام ومفاهيمه وعناصره على مرّ العصور، وفي كلّ الأمصار. ولا شكّ أنّ الموسوعات المذكورة أعلاه انبَنَت، ضمناً أو صراحةً، على سلسلة من المعايير التي اختار المؤلّفون في ضوئها المداخل وأقْصوا أُخرى، وهي معايير غالباً ما يُصمت عنها، ولا يُشار إليها ضمن "عقد القراءة" الذي يربط القارئ بهذا النوع من المراجع، وهي لا تُستشار إلّا بالمناسبة.

وقعت في فخّ العمومية والرغبة في الإحاطة بكلّ شيء

وأكثر من أيّ موضوع آخر، يسعى التعريف بالإسلام عبر الموسوعات إلى محاولة حَصر مضامينه من أجل السيطرة عليه معرفيّاً. وليس من الغريب أنّ تحرير الموسوعات الأُولى كان على أيدي المستشرقين الذين استأثروا بهذا العمل واعتبروه "عِلميّاً"، لأنّهم كانوا مهووسين بمعرفة الآخَر، وبفَهْم تاريخه وحضارته ونصوصه بشكل شموليّ، يُسهّل الهيمنة السياسية على ما سيصبح تدريجيّاً "مستعمرات أوروبية"، شكّلت ثقافاتها المحليّة ألغازاً أو "بُنىً ثقافيّة مغايرة"، فقط لأنّها لا تخضع للمنظور الغربي ولا تدخل ضمن أصوله المنطقية. فالفقه الإسلامي، على سبيل المثال، ليس هو "القانون" الذي نضج في مَجلاّتهم. كما لا تتطابق الخلافة مع أيّ نظام سياسي وضعي يعرفونه، مما أكّد حاجتهم إلى وصف شمولي يضمن لهم فهماً يُخضع "ظواهر" الآخر (العَرب - المسلمون) لأدوات بحثهم.

ولذلك، قامت هذه الموسوعات على الخلط التام بين الإسلام حضارةً والإسلام ديناً وإيماناً، فدرست كليهما بنفس الآليات، ممّا تسبّب في وقوع العديد من المُغالطات والشبهات، لا سيما أنّ مقاربة أغلب المنتجات المتّصلة بروحانية الإسلام، كعِلم الكلام والتفسير والتصوّف والأخلاق، وقعت عبر مقولات التراث اللاهوتي اليهودي - المسيحي، مما أدّى إلى كثيرٍ من الإسْقاط والخلَل، حيث كانت غايات مُحرّري هذه الموسوعات، المُوجزة منها والمُطوَّلة، تقريب المفاهيم رغم اختلاف الجذور والمبادئ الأُولى. لكن، هل يتسنّى فهم الأدب الجاهليّ، مثلاً، على ضوء الشعرية الإغريقية ووريثتها البلاغة الأوروبية الممتزجة بالمنطق الصوري؟ وهل يمكن المماهاة بين رجال الدين الكنسيّين وبين الفقهاء؟

ومع ذلك، وضعت هذه الموسوعات نفسها كأنموذجٍ معرفيّ، بالمعنى الذي أطلقه توما كون (1962)، وفي ضوئه قُيّمت المعارف وصارت معيارها الأوحد، وما عداها أوهام وأغاليط، وهذا من مظاهر المركزية الأوروبية الراغبة في تطبيق مقولاتها العقليّة على الحضارات الأُخرى حتى يتسنى لها إدراكها والهيمنة عليها. 

تنفي هذه الموسوعات أبعاد القداسة عن الظواهر المدروسة

يُضاف إلى ذلك أنّ المبدأ العميق الذي حكم هذه الموسوعات هو "التاريخانية"، بما هي المبالغة في وضع ظواهر الإسلام ضمن السياقات الزمنية التي أنتجتها، كما لو كانت منتوجاً تاريخياً محضاً، وذلك في إطار النظرة الوضعية للأديان وشعائرها باعتبارها استجابات فردية وجماعية لدواع خارجية، يُمليها الوضع المُحيط بجماعة ما. وهذه المقاربة تنفي كلّ أبعاد القداسة عن الظواهر المدروسة، ولا تتعامل معها إلّا كموضوع للدرْس والعرض التاريخي النقدي، وذلك في استمرارٍ للمنطق الاستشراقي القائم على مُصادرة صامتة؛ وهي أنّ الغربيّين الذين حرّروا هذه الموسوعات هُم المُؤَهّلون فقط، دون غيرهم، للكلام عن الإسلام بشكل عِلمي موضوعي، وكلّ خطاب سوى خطابهم سيُلحق بالذاتية أو التمجيد أو السطحية في أحسن الحالات.

ورغم ما في هذه النظرة من الاستعلاء، فإنّها لا تزال تتحكّم في إنتاج الخطاب الغربي عن الإسلام، وخصوصاً ذلك الذي ينشأ في أحضان العلوم الإنسانية المعاصرة، كعِلم الاجتماع والألسنيّة والأنثروبولوجيا التي ورِثت الاستشراق، وباتت تُطبَّق على المجتمعات الإسلامية، القديمة منها والحديثة.

وثمّة أخيراً بُعدٌ مخفيّ يحكم إنتاج هذه الموسوعات بما تنطوي عليه من مضامين، ويتّصل بالجهات المُموِّلة لمثل هذه المشاريع الضخمة، والتي تتطلب ميزانيات مُكلفة على مدى سنين طويلة. كّلنا يعلم أنّه لا يوجد تمويلٌ بريء، وأنّ "الراعين"، يبحثون عن الصيت والسلطة، فلا يموّلون إلّا ما يتماشى مع ميولهم ونُظم أفكارهم. فلذلك، من الضروري دراسة مصادر تمويل موسوعات الإسلام بشكل معمّق، واستنطاق الدوافع العميقة التي حرّكت تلك الجهات، فضلاً عن علاقتها بالأجهزة السياسية التي تحكمها، وقد تتواطأ معها لأغراض لا علاقة لها لا بالعِلم ولا بمنهجه.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون