يفتتح الروائي الجنوب أفريقي جي إم كوتزي كتاب الرسائل المتبادلة بينه وبين الروائي الأميركي بول أوستر، "هنا والآن"، بالسؤال عن الصداقة: لماذا يصبح الناس أصدقاء ويبقون كذلك؟ أمّا السؤال: "لماذا يصبح الناس أصدقاء؟"، فإن كِلا الروائيَّين يجتهد في البحث عن الأسباب؛ فيقول أوستر إن أفضل الصداقات وأبقاها تلك التي تقوم على الإعجاب المتبادل: هذه هي صخرة الشعور التي تربط اثنين على المدى البعيد، أي أن يعجبك شخص لما يفعله، لما هو إيّاه، لكيفية اجتيازه سبيله في الحياة. وربما يجد أن الأصدقاء يبقون كذلك لمثل هذه الأسباب.
لا يتضمّن كتاب الرسائل المتبادلة بين الروائي عبد الرحمن منيف والفنّان مروان قصّاب باشي ("في أدب الصداقة") أسئلة عن الصداقة؛ إنّهما يعبّران عن المسألة على أنها حقيقة راسخة بينهما، دون أن ينشغلا بفلسفتها. تصلح هذه العلاقة كمثال على الصداقة التي استمرّت سنوات عديدة بين الرجُلين. اللافت في صداقتهما، أو في صداقة كوتزي وبول أوستر، أن كلّ ثنائي من بينهما لم يكن قريباً من الآخر في السكَن، ولم تكن اللقاءات بينهما متواترة زمنياً، وهذا ما يُبعد مسألة التقارب الفيزيائي بوصفها أحد أسباب استمرار الصداقات.
بعد تحطُّم الصداقات في سورية، ها هي تتحوّر إلى عداوات
وتشتهر في التاريخ صداقة ماركس وإنغلز، ويقدّم فرانز مهرنغ ــ في سيرته المعروفة عن ماركس ("كارل ماركس: تاريخ حياته ونضاله") ــ فصلاً عن تلك الصداقة يقول فيه إن إنغلز ظلّ يقدّم مساعدة مالية لصديقه ماركس طوال أربعين سنة، مضيفاً جملة متألّقة تقول: "ولم يتعب من مساعدته، وفي مثل هذه الصداقة يبدو طرفٌ واحد (إنغلز) هو المِعطاء، بينما كان الثاني (ماركس) يأخذ وحسْب".
يسأل جي إم كوتزي: لماذا تبقى الصداقات؟
منذ بضع سنوات كتبتُ عن تحطُّم الصداقات في سورية، في زمن قياسي شهدته السنوات الأولى بعد الثورة السورية. لم يتغيّر شيءٌ بعد، بل إن بعض تلك الصداقات تحوّل، أو تحوّر ــ ما دمنا في عالم الفيروس ــ إلى عداوات تتحدّى أيّ تفسيرٍ أو تعليل أو فهم.
لم يذكر كلا الروائيَّين الصراعات السياسية كأسباب لتدمير الصداقة بين الأفراد، وليس لدينا سجلّات مكتوبة عن حالة شبيهة بالحالة السورية. وبالنظر إلى ما يقوله ميشيل حنا ماتياس عن أن الصداقة تعكس وضع البشر ككائنات اجتماعية، أي هي في أحد تجلّياتها تعبيرٌ عن الرغبة في الاجتماع، فإن انهيار الصداقات لا يُشير إلى العكس، بل يُظهر رثاثة السياسة من جهة، وكونَ الصراع في الحاضر قد وضع الناس بقوّة أمام مسألة اختيار المستقبل. لهذا بدت الصداقات السورية مرتبكةً في البداية وهي تسأل عن الآخر: لماذا تقف هناك؟ ثم حسم كلّ الأفراد خياراتهم ذهاباً وإياباً.
قال بول أوستر إننا في الحبّ والزواج قد ندخل في شجارات عنيفة: إهانات ملتهبة، أبواب مصفوقة. أطباق مهشّمة؛ لكنْ يتبخّر هذا كله فيما بعْد وتبقى علاقة الحبّ؛ غير أن من النادر، بحسب ما يقول، أن تعلو أصوات الأصدقاء على بعضهم البعض، ونادراً ما يبقون أصدقاء حين يحدث هذا.
* روائي من سورية