"بوتين، أوكرانيا" لـ فلاديمير فيدوروفسكي: الوُجوه الخفيّة للحرب

"بوتين، أوكرانيا" لـ فلاديمير فيدوروفسكي: الوُجوه الخفيّة للحرب

05 ابريل 2022
فلاديمير فيدوروفسكي في مدينة مونتايغو الفرنسية، 2022 (Getty)
+ الخط -

في هذه الأيام التي تستعر فيها الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، تزداد الحاجة إلى فهم ما يَجري ليس فقط في ساحة الوغى، وإنما أيضًا في رأس فلاديمير بوتين، وفي أذهانِ مَن يُحيط به من قادة عَسكريّين ومُنظّرين، وحتى أوليغارشية؛ إذ ليس من السهل على القارئ غير المتخصّص في هذه المنطقة الجيوسياسيّة، أن يدرك الرّهانات التاريخيّة والمحرّكات الحضاريّة التي تحكم هذا الصراع... صراعٌ يبدو للوهلة الأولى وكأنما تَفَجّر فجأةً، في حين أنّ جذورَه تعود إلى قرونٍ مَضت، ضمن حيويّة سياسيّة وثقافيّة، لا نملك جلّ مفاتيحها.

ولذلك يحتاج هذا القارئ إلى رجُلٍ "من أهل مكةَ" دارٍ بشعاب هذه المنطقة حتى يحلّل الوجوهَ الخفية لأبطال الصراع. وفي هذا الإطار، يتنزّل الكتاب الجديد لـ فلاديمير فيدوروفسكي بعنوان "بوتين، أوكرانيا الوجوه الخفية"، (الصادر عن دار بالان للنشر)، في محاولة منه لتسليط الضوء على العوامل المُستَترة التي تحرّك هذا النزاع المستعر حاليًّا، مع إضاءة الخَصائص العميقة التي تميّز شخصية الرئيس الروسي وبنيتَه العقليّة والنفسيّة، والتي تشكّلت عبر عوامل بعضُها ذاتيّ، وجلّها خارجيّ مُتّصل بتاريخ الإمبراطورية القيصريّة والثورة البولشيفية فالاتحاد السوفييتي، وما شملته كلّ حقبةٍ من متغيّراتٍ أيديولوجيّة واقتصاديّة. كلّ هذا بالإضافة إلى المكانة الاستراتيجيّة التي تحمّلتها أوكرانيا ضمن النّظام العالمي الجديد، بعد تضاؤل الهيمنة الأميركيّة ورغبة الاتحاد الأوروبي في لعب دور مهمٍّ فيه.

في الحقيقة، بدأ الباحث فلاديمير فيدوروفسكي تحريرَ هذا الكتاب منذ أشهرٍ، ضمن سلسلة أعماله العديدة عن التاريخ الحديث والمعاصر لروسيا، والتي تجاوزت العشرين مُؤلفًا، بين الأدبيّ والتّاريخي والتحليلي. إلّا أنّ غزو هذه الأخيرة للأراضي الأوكرانية، منذ أكثر من شهر، عجّل بإنهاء الكتاب وإتمام فُصوله بما تَستحقّه من التّحيين، في ظل استمرار تساقط الضحايا مِن الجانبَيْن. وقد استمدّ تحاليله من تجاربه باعتباره دبلوماسيًّا روسيًّا سابقًا متضلّعًا في شؤون هذا البلد، بل كان من بين مهندسي سياسة الشفافية التي قادها بريجنيف وأحد منظّريها الأُوّل.

قراءة الكتاب ممتعة، لا ينغّصها سوى ثقل الوقائع

في هذه الأثناء، ظلّ السؤال الأهم: إلى أي مدًى يمكن لبوتين أن يذهب في هذه الحرب؟ وما هي مخارجه المحتملة؟ اعتمادًا على خبرته العلمية وتمكّنه النّظري، يرى فيدوروفسكي أنّ بوتين "خطرٌ مطلقٌ"، وأنّ الأزمة الحالية هي الأخطر منذ نشوب الحرب العالمية الثانية، ودعا صراحةً فرنسا والاتحاد الأوروبي إلى مواصلة المَزج بين سياسة العقوبات مع تَركِ باب الدبلوماسية موارَبًا، وذلك بالرغم من عدم اقتناعه بجدوى العقوبات التي تفنّن الغربيون، أحيانًا بشكلٍ هوسيّ، في إجرائها، ليس فقط لأنّ بعضَها رمزيّ، ولكن لأنّ الرّوس عاشوا في ظلّ حقبة يلتسين ظروفًا أسوأ ألف مرّة من تلك التي قد يعيشونها اليومَ. ولكن بالنظر إلى الإمكانيات الضخمة التي تمتلكها روسيا، وبالرغم من التعثّر العسكري الذي أجمع على ملاحظته جلُّ المراقبين، فإنّ الحل يكمن في التفاوض لإيجاد مخرَج متوازنٍ يُرضي الجانبَيْن.

كما أبدى الكاتبُ أسَفَه، في هذا الكتاب، من تدهور العلاقات بين الغرب وبوتين ضمن هذه الصيغة الذكية: "إذا كان بوتين قد وحَّدَ دولَ حلف الناتو، فإنّ هذه الأخيرة قد قَوّت بدورها بوتين ودَفعَته في اتجاه الصّين وإيران، تعزيزًا للتكتّل الشرقيّ المُقاوم". ويُحذّر الكاتب من أنّ العقوبات التي يبالغ الغَرب في إلحاقها بالاقتصاد الروسي ستضرّ حتمًا بالاتّحاد الأوروبي والقدرة الشرائية لمواطنيه، ولن تحقّق، على الأقل في المنظور القريب، النتائج المرجوّة منها، وهو ما يشرّع للتّساؤل عن جدواها وعن ضرورة احتوائها.

ومن جهة ثانية، يوفّر هذا الكتاب مفاتيح مفصليّة عن شخصية بوتين، معدّدًا الوجوهَ الخمسة لديْه؛ فهو "الطفل الكسير" المنحدر من عائلة فقيرة، و"الرّياضي الماهر"، و"الجاسوس المحتال" الذي يتقن فن المراوغة، ثم هو "رجُل السّياسة المحنّك"، وأخيرًا القائد الحالِم بإعادة أمجاد الإمبراطورية السوفييتية.

تذكيرٌ منهجي بتداخُل التاريخين الروسي والأوكراني

قد لا تبدو مقاربة الكتاب أصيلة، كما أنّ ما فيها من معلومات لا يغيب عن سائر المُحلّلين العرب الذين تخصّصوا في الشأن الروسيّ، وليس فيه معطياتٌ سِريّة خارقة للعادة، بل هو بمثابة تذكير منهجي متكامل بتداخل التاريخين الرّوسي والأوكراني، منذ قرون، وضرورة استنطاقها حتّى يتسنّى فهم التحديات الراهنة. فمن ذلك يذكّرنا صاحبُ "رواية سان- بطرسبورغ" بأنّ هذا الذي يَحدث اليوم إنّما هو من نتائج عمليّة الإقصاء التي مارستها أوروبا، إثر فشل سياسة "الشفافية" وانهيار الاتّحاد السوفييتي، فَعوضَ أن يحتضنَ الغرب روسيا ويضمّها إلى مُعسكره، بالَغ في إقصائها وتَفنّن في إهانَتها، وهو يَرى بَدْلات الجِنرالات الرّوس الفاخرة تباع بكمشة زهيدة من الروبلات، اتّقاء البَرد والجوع. وهو ما يُعد نكسة حتى للديمقراطية.

تضرب هذه الإهانة بجذورها العميقة في فترة ما بُعيد الحرب العالمية الثانية؛ حيث لم يقدّر أحد الدور الروسي الرئيس في إيقاف هتلر وجنونه، مقدّمًا في سبيل ذلك ملايين الضحايا. ولعلّنا نُصدَم بواقع مثلًا أنّ الشعور المعادي للغَرب، في روسيا، هو اليوم أقوى ممّا كان عليه في أيام يلتسين والانفتاح الكبير، ممّا يجعل العالم يتوجّه حاليًّا إلى تكتّل ضدّ تكتّل، وإلى عدائيّة صريحة بين العالمَيْن. 

وأخيرًا، يؤكّد الباحث ضرورَة التنبّه إلى حرب المعلومات وصراع الصور والخطابات التي تخاض جنباً إلى جانب مع الحَرب العسكريّة، والتي رغم فظاعتها، لا يجب أن تخفيَ الحقيقة، فهي أولى ضَحاياها.

الصورة
فودوروفسكي

ويختم الكاتب عمله هذا بانتقادٍ صريح للروسوفوبيا (الرهاب من الروس)، والتي شاعت بشكل مَهول في الأوساط الأوروبيّة، إلى درجة منع قراءة بعض آثار الأدب الرّوسيّ العريق، ودعوةٍ إلى التفريق بين الشّعب الروسي ورئيسه الذي لم يعد يُمثّله إلّا قليلاً. 

ومع أنّ هذا الكتاب أقرب إلى التحاليل "الاستهلاكيّة" التي تُلقى على رؤوس الملأ في القنوات التلفزيونية، والتي لا تهدأ في فرنسا على مدار الساعة، فإنّها قد تُفيد القارئ العربي إن تُرجمت بعض أجزائه، في فَهم واقع هذا الصّراع المعقّد والأصول التاريخيّة البعيدة التي تتصل برمزيّة الأرض والثقافة وأعماق الشخصية الروسية أو الأوكرانية، وهي ولئن التقت مع الواقع العربيّ في بعض جوانبه، تظلّ مرتبطة بالخصوصيات الثقافيّة لذلك البلد. 

ولعل القارئَ العربي سيتعجّب إن عَلم أنّ فيدوروفسكي يتقن الضّاد، وقد عمل مترجمًا بين يلتسين والقادة العَرب، وصاحبَ بوتين عن قربٍ، واحتكّ بزملائه الأميركيين والأوروبيين، وهو ما يُضفي على الكتاب وصاحبه طابَع الشهادة على العَصر، مثل سائر كتبه، الممزوجة بالطابع الأدبيّ، حتّى فاز بالعديد من الجوائز لما تميّز به أسلوبه من وضوح وقصصيّة وتشويقٍ، في نموذج يشبه إلى حدّ كبير ما كان عليه حسين هيكل.

قراءة الكتاب ممتعة، لا ينغّصها سوى ثقل الوقائع الراهنة التي تتغير من يوم لآخر، مما يجعل متابعتها وتحليلها وتأويل متناقضاتها مهمةً شاقة. خيرُ التحاليل ما كان بعد الظّاهرة المدروسة، لا أثناء حدوثها، وانفتاحها على احتمالاتٍ عديدة.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

موقف
التحديثات الحية

المساهمون