مصر تتحدث عن نفسها.. من سجون العسكر

25 مارس 2014
عمر حاذق.. السجن أحب إليّ
+ الخط -
"الإوزة البرية تصرخ عندما يمسك بها الشَرَك
وهي على الطُعم،
حبي لك يمسكني
ولكني لا أقدر أن أفقده".

هذه خلاصة الرواية التي كتبها المبدع السجين عمر حاذق: مقطعٌ مصري قديم اقتطفه الكاتب من أناشيد الغرام التي كتبها شاعر مجهول. وها هو يقوم بدور هذا المجهول فيسطّر حكايةً مصرية معتادة، فقر وغرام وطموح لمهمة في الحياة ثم موت في النهاية.

لكن هذا الدور لا يكتبه عمر في رواية "لا أحبّ هذه المدينة" (دار الإسلام للطباعة والنشر) على هَدي من نجيب محفوظ في رواياته التاريخية الأولى عن الفترة الفرعونية، ولا بطريقة الروائيّ الفنلنديّ ميكا فالتاري (توفي 1979) في روايته الشهيرة "المصريّ" التي تُرجمت باسم "سنوحي المصريّ"، وغيرهما. بل يكتبه على نمط التاريخ الحيّ الذي يستعيد نفسه بين الحين والآخر في تجليات أدبية ترمي إلى مغزىً معاصر، أو بروح من العصر مختلفة عما كتبه الأسبقون.

تضمّ الرواية (160 ص) أربعة أقسام: يوم بكى الإله، البيضة فقست، في البدء كانت الكلمة، القمر يخرج من بطن الوحش. في القسم الأول، تبدأ الرواية بحكاية ميلاد إنسان مصريّ بسيط، يتعثّر بولادته، لكن يولد معه حمار تسميه الأم باسمه، ويُعتبر خدينه طيلة الرواية، مثل القرين أو "الكا" يبدأ معه، لكنه لا ينتهي معه، فدوره يختفي بمجرد اختفاء الروح الأصل.
إنها حياة المصريّ التعيسة البائسة في بدايات القرن الأول للميلاد، وسط الجنود الرومان القساة الذين يستحلّون خير المصريين بالضرائب والقتل أحياناً، والاغتصاب أحياناً أخرى.

لكن الأمّ المكافحة تعمل بين هذا كلّه، تربي ابنتها وولدها، في تصوير أمٍّ مقدّسة، رمزاً لنضال مصريّ بدأ منذ عهد غابر للتاريخ، ولم ينته إلى اليوم. لكن حلماً يُخايل الفتى، أن يرسم بورتريه لوجوه الناس، فيقرّر السفر إلى الإسكندرية، ليتعلّم من فنانيها، وطبعاً هذا الحلم الكبير ينتهي إلى مأساة ملّونة، مع الحبّ والفقد.

*

"عيناي على الطريق،
وأذناي تسمع،
حبّ حبيب هو همّي الوحيد،
أموت أنا؟"

مع أن النيل واحد، إلا أنه شيطان أحياناً، يمضي إلى الغريب أكثر مما يمضي مع أبنائه، (فيظمأ إله الأرض، ويغضب، ولا يخرج الزرع من ظهره)، لأن الإله "حابي" لا يسقي الجميع بصورة عادلة، بل ينحاز كثيراً للمستبدّ ضدّ المظلوم.
لكن حورس، الحمار القرين، يمضي معه، يطمئنه ويسري عنه ويسمع ما يحكيه. وهنا يبدأ القسم الثاني، عند وصول الفنان بأحلامه إلى الإسكندرية، في حياتها الرومانية المرفّهة، ومكتباتها العامرة، وأهلها المتجبّرين القساة، الذين لم يفوّتوا فرصة للسخرية من الفنان الذي يصلّي دائماً للإله "رع" ناثر القمح في الحقول.

وبالصدفة يعمل في حمّام شعبيّ، مع أحد المشاركين الحفاة في "ثورة الرعاة"، حيث "لا الفيضان كفى، ولا الضرائب خُفّضت، ولا الأوبئة انحسرت"؛ وكانت مصر مورّد القمح للرومان، ويعمل الفلاّحون عراةً وجياع لمجرّد سداد الإتاوة، ويأكلون الهواء. ينتظم في درس الرسم بالسيرابيوم، ويحلم بأن يهزم الفقر ويبني القصر ويقي أمه شرّ الفاقة ويرسم ما وسعته طاقته على الرسم، محاولاً أن ينسى كلمة أمه: "ما خُلقنا إلا للتُرعة والطين".

يعدم الرومان ثلاثين فلاّحاً، بينهم نساء وصبيان، بتهمتَي النهب والسرقة. والحقيقة هي أنهم قد اعتنقوا الدين الجديد، المسيحية، لكنه يبتعد: "لا أريد سدوداً في نهر أحلامي". يعلق بطُعم فتاة رومانية جميلة في المرسم، ويمنّي نفسه: "أتأمل درجات البياض حين يغمره ظلّ كثيف، مسألة فنية لا أكثر". تلاعبه ديونيسيا، وهي تحبّ آخر، رومانياً غافلاً عنها. أحبّ حبيبتي، وهي تحبّ آخر، والآخر يحبّ أخرى، مسائل درامية متكرّرة.
لكن تجيء الفاصلة حين تنضمّ الفتاة إلى الدين الجديد. وهو يقارن بين المسيح وأوزوريس الذي جمعت إيزيس أشلاءه إلا عضو التناسل لعدم عثورها عليه، فأنجبت منه حورس دونما اتّصال جسديّ مباشر.

يرسم ديونيسيا كانتصار مذهل لحياته، ليخلص من حمّى غلبته، مع أن المرارة تسمّم أيامه. فيصرف وقته في رسم أحبته: أمه، صاحبه البائس، فقراء الإسكندرية، وبعض من الأغنياء بثمن بخس: عنقود عنب، شُقّة بطيخ، رغيف، جرّة نبيذ. ثم يولد ابن لحماره القرين، فيقوم برسمه وسط احتفال صاخب للكائنات، فرحة تُكسب قلبه بعضاً من العزاء.
يدخل عمر القسم الثالث بروايته بدايات المسيحية، الاضطهاد والمحاكمات والحرق والقتل. لكن "الله محبة" تأكل عقول القرويين البسطاء، طمعاً في هناء، ولو كان في حياة أخرى.

*

"ألوّن كلّ هذا الرعب،
وخوفي من البعيد المجهول"

ينخرط الفنان في "مأدبة المحبة"، يرسم أيقونات ويصوّر بورتريه للعائلة المقدّسة. لكن الفقراء يموتون كطير السماء في سلام، على أن يدبّر الربّ أمره. وفي القسم الرابع من الرواية تكتمل المأساة، حيث يُطرد صاحبه إلى الشتات، بوشاية ظالمة من صاحب الحمّام، وتمرض ديونيسيا بعدما حبلت بابن الرومانيّ المتغطرس الذي أنكره، ويُحكم عليها بالإعدام، ثم يُطرد الفنان نفسه فيسافر في أوديسة ملحمية عائداً إلى قريته ليجد أن أمه قد توفّيت وهي تغسل الملابس في التُرعة.

يتعذّب لضياع رسمة أمه وموتها في النهر، فلا مثوىً قد تعود إليه؛ ولهروب أخته نحو لا مكان يهتدي منه إلى أثر عليها. وبالمصادفة يتعرّف إلى حشد فلاّحين آمنوا بالمسيحية، فيعود إلى رسم الأيقونات، بألوان المحبة والأمل، ثم يقف الزمان، فقد وشى بهم أحد إلى كبير الرومان الذي سيلمّ الجمع كلّه، بعضهم للحرق وبعضهم للقتل. أما هو وزعيم الحلقة المؤمنة فسيتم إغراقهما في النهر، فيحتضنا بعضهما بعضاً. وفي لحظة الغطس، يجد الماء رحيماً، ويسمع صوت أمه يقول له: "اثبت"، فيشمّ رائحتها ويردّد: "سنذهب إلى ملكوت الله، يا أمي!"

في رواية "لا أحبّ هذه المدينة" عالم من المأساة، تشوبه سمة من الكدّ لتحقيق أحلام قد لا تتحقّق. لكنها الحياة، نسعى لما لا نقدر عليه، بينما القدر يدبّر أفاعيله، والموت بالمرصاد، قابع في قعر بئر عميق عميق، لا يتوانى عن حرق الأماني واعتصار قلب من يحلم بمزيد من الحياة.
المساهمون