كاليدونيا الجديدة .. منفى الأجداد

07 مارس 2017
+ الخط -
الثامن من مايو/أيار من سنة 1870، يقف البطل الجزائري، الشيخ الحداد، أمام جمع غفير في سوقٍ، رافعاً عصاه ومخاطباً أنصاره: "سنرمي فرنسا كما أرمي عصاي، ورمى عصاه في السماء"، ليعلن رسميّاً الجهاد ضد المستعمر الفرنسي، واضعاً حجر الأساس لواحدة من أكبر بطولات ومقاومات التاريخ الحديث. إنّها ثورة المقراني والشيخ الحداد، لتندلع بعدها فصول الشجاعة والرجولة والدفاع عن الجزائر في وجه المستعمر. مقاومة امتدت من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، مكبدة المحتل الفرنسي خسائر فادحة، وتراجعاً رهيباً، إذ وصل به الأمر إلى فقدان بعد المدن وتحريرها من طرف المجاهدين الجزائريين تحت قيادة الشيخ المقراني والحداد، إلى أن تمكنت فرنسا، من قتل القائد الشيخ المقراني، لتبدأ الملحمة في الانحسار، انحسارٌ تحوّل بعدها إلى تراجع وانهزام، وكعادة الاستعمار الفرنسي، حان وقت العقاب.


كاليدونيا الجديدة، مستعمرة فرنسية منذ سنة 1853، وعاصمتها نوميا. تقع كاليدونيا الجديدة في قارة أوقيانوسيا جنوب المحيط الهادي، تبلغ مساحتها 19 ألف كيلو متر مربّع، عدد سكانها يبلغ اليوم 250 ألفاً، من بينهم 20 ألفاً من أحفاد الجزائريين. تبعد عن الجزائر العاصمة نحو 22 ألف كيلومتر. ارتبط اسم كاليدونيا الجزيرة بمستعمرة المنفيين. إذ كانت فرنسا، وقتها، تجعل من البلد سجناً تعاقب به مستعمراتها من جهة، ومن جهة أخرى تستعبد هؤلاء حتى يعمروا هذه المستعمرة الجديدة، والتي جعلتها باريس محافظة فرنسية تابعة للعاصمة الفرنسية.

لم تصمد مقاومة المقراني والحداد كثيراً، فبعد شهرين من القتال والبطولات في عام 1871، يستشهد الشيخ المقراني، ويعتقل الشيخ محمد امزيان الحداد، ليعذب من طرف الخونة والحركي حتى استشهاده. قرّر المستعمر الفرنسي أن يعاقب الجميع كي لا تتكرر انتفاضة هذا الشعب. عقابات عديدة من إعدامات ميدانية، إلى فرض ضرائب باهظة وتجريد الأهالي من السلاح، إلى أخطر عقوبة، عقوبة عمد المحتل الفرنسي ابتكارها إمعاناً منه في الانتقام الشديد ممن حمل السلاح ضده، وهي نفي أكثر من ألفي جزائري من بينهم قيادات في المقاومة الجزائرية آنذاك إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة التي تحتلّها جنوب المحيط الهادئ.

جميع القادة ويتقدمهم أبو مزراق المقراني شقيق القائد الشهيد الشيخ المقراني، و نجلا الشهيد القائد الشيخ الحداد، محمد وعزيز، ينقلون برفقة أكثر من ألفي مقاتل من المقاتلين الشجعان، من ميناء وهران إلى ميناء طولون بفرنسا ليكملوا طريق الموت والعذّاب نحو النفي إلى المجهول، بدءاً من شهر يونيو/ حزيران من عام 1873. وتشير الإحصائيات غير الرسمية أن فرنسا نفت ما يقارب 2106 جزائريين إلى كاليدونيا الجديدة حتى نهاية القرن التاسع عشر، لنعد إلى الأبطال أبو مزراق ورفاقه وكيف كانت رحلة وصولهم إلى مستعمرة الموت.


سعت فرنسا إلى إنشاء عمران غربيّ في كاليدونيا، فرأت في سواعد الجزائريين المقهورين أحسن أداة للتشييد هذا المشروع، فقضى الجزائريون المنفيين عقوبة مقاومتهم للمستعمر، بأعنف صورة إذ تم استغلالهم بصورة غير إنسانية في العمران وفي خدمة المعمرين، إذ يحكي أحد أحفاد الجزائريين المنفيين في ذاكرة جدّه أن المعمرين الفرنسيين كانوا يضعون الجزائريّ كرهان فوز في القمار، إذ إنّ الرابح يأمر الجزائري بخلع ثيابه والنزول في حفرة لا يظهر منها إلاّ رأسه ، ثم يتعلمون في رأسه الرماية، هذا قليل مما روي. 

مرَّت السنوات على الأجداد، كما مرّت السنوات على الأحفاد، عاد من أراد، وعاد من كتب اللّه له الموت في أرض أخرى، وبقي كثيرون يعيشون الآن في كاليدونيا الجديدة، أكثر من 20 ألفاً من الجزائريين، حاملين دون إرادة الجنسية الفرنسية، في وقت أصبح فيه خط الجزائر- باريس، لا يكاد يرى ظلمة وإن تمناها من القلب كل الجزائريين من حدود تيندوف غرباً إلى كاليدونيا شرقاً. تأبى هذه الإبادة في حق أجدادنا أن تزول.
5F163551-BCDB-49C5-AAE5-FC74BFDCDBE3
عبد القادر بن مسعود

مهندس ومدوّن جزائري، مهتم بالقضايا العربية والإقليمية. يقول: "أثر الفراشة لا يُرى".

مدونات أخرى