11/ 9 مهنة الصحافة؟
هل هي مبالغة وصف ما يحصل اليوم في عالم الإعلام على أنّه نوع من 9/11 مهنة الصحافة؟
إن كان من الممكن لوسائل إعلام غربية وإسرائيلية إطلاق تشبيه مماثل على عملية "طوفان الأقصى"، وما حصل لإسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فإنّي أرى أنّ الأحق بالتشبيه هو ما حصل منذ ذلك اليوم لمهنة الصحافة.
لقد اخترقت أسلحة إسرائيل الاقتصادية والسياسية أبراجاً للمهنة، لا مجرّد برجين، كانت بمثابة منارة أو قلاع للصحافة المتوازنة كما يحلم بها المرء... أبراجاً عالية شيّدتها أجيال من المخلصين لمبادئ إيصال الحقيقة للرأي العام، انهارت بلحظة الحدث، دافنة تحت ركام أكاذيبها المهول، ليس فقط أحلام المؤمنين برسالتها، بل حتى الحدود الدنيا المقبولة في المصداقية المهنية.
ترهيب وتنمّر وعقوبات على الصحافيين المعارضين، استخدام مصطلحات في غير مكانها تُشوّه الحقيقة، وحرمان أحداث أخرى من أوصاف تستحقها. باختصار، هذا ما يحصل الآن في غالبية إعلام الدول المتواطئة مع الإرهاب الإسرائيلي.
لقد اخترقت أسلحة إسرائيل الاقتصادية والسياسية أبراجاً للمهنة، وليس مجرّد برجين، كانت بمثابة منارة أو قلاع للصحافة المتوازنة كما يحلم بها المرء
لم يعد هناك حياد. الأمر واضح أكثر من أيّ وقت مضى. لكن ما يحصل اليوم ليس مجرّد تعاطف ظرفي "غربي أبيض" مع إسرائيل، بل انحياز بنيوي، إن جاز التعبير. انحياز صارت له بنية تحتية متينة متشعبة وغير مسبوقة: ترسانة من القوانين تعاقب نقد إسرائيل، وسلسلة من الخوارزميات التي تتحكّم بما يظهر للجمهور، وتحجب "ما قد يضرّها"، وصولًا الى تبوّؤ صهاينة إدارات التحرير أو بعضها، وإقامة محاكم تفتيش ومعاقبة على النوايا للصحافيين والصحافيات لأدنى "لايك"، أو تعبير عن الرأي على صفحات السوشال ميديا الشخصية، والسكوت عن اغتيال أولاد المهنة والاكتفاء بإيراد أخبار عن أعدادهم مع تجهيل الفاعل.
القتل عمد للصحافيين في غزة وفلسطين. هذا لا شك فيه، لا بل أنّ إسرائيل نفسها تؤكده. لكنه يرد على شكل "أخبار" مموّهة بكلمات مدوّرة، عامة، لا تُشير إلى شيء ما خلا خيانة الزملاء.
تتخيّل تلك الأخبار الواردة من "بي بي سي" مثلاً، أو وكالة الصحافة الفرنسية (التي قصفت إسرائيل مكاتبها في غزة)، يقرأها أو يشاهدها المتابع الإسرائيلي مع ابتسامة المطمئن والراضي عن هذا الخضوع غير المسبوق لروايته الإعلامية.
فالحكومات الغربية التي أصبحت مجرّد ممثليات لتكتلات اقتصادية متحالفة مع إسرائيل، تقوم لأجل هذه الأخيرة بكلّ العمل القذر في تضليل الرأي العام، وسن القوانين الجائرة، وتزييف الإحصائيات، وقمع تحرّكات من تسلّلت إليهم الأخبار الحقيقية من بعض المصادر المستقلة النادرة التي حافظت على استقلاليتها بتمويل القرّاء لها، بدلاً من الشركات.
القتل عمد للصحفيين في غزة وفلسطين. هذا لا شك فيه، لا بل أنّ إسرائيل نفسها تؤكده. لكنه يرد على شكل "أخبار" مموّهة بكلمات مدوّرة، عامة، لا تُشير إلى شيء ما خلا خيانة الزملاء.
إعلام هذه الدول المنحازة، وبعضه كان معروفاً كحامل لراية الأصول المهنية والحياد والموضوعية، ولو ببرود، مثل "بي بي سي"، سوف يعاني كثيراً لترميم صورته بعد تغطيته المخزية لحدث غزة، أمام جمهوره قبل غيره، خصوصاً بعد بدء تكشّف الصورة المفزعة لما كان يغطي عليه بدلاً من أن يغطيه: حرب إبادة وجرائم حرب امتنعت "الهيئة" عن وصفها بما هي عليه. اعترف أنّه كان هناك دائماً في داخلي، ولدى متابعتي لوسائل الإعلام تلك، شعور مبهم بالإعجاب الممزوج بعدم تصديق كلّ تلك المثالية. كان شعوراً محيّراً ما من إجابات كاملة عليه. فمن منّا ليست لديه أحلام يريد أن يصدّقها؟ جمهورية أفلاطونية يريد الانتماء إليها؟ لكن، ومع أنّي تجاهلت ذلك الشعور، إلا أنّي لم أنسه. كان ذلك عادة مهنية اكتسبتها من عملي في التحقيقات، حيث تبقي في مكان ما من رأسك علامة استفهام معلّقة، بانتظار الجواب الذي قد يأتيك مع الوقت.
هكذا، تلمست بدايات للإجابة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، خلال التعاطي الإعلامي مع غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق البريء من دم تلك الأحداث، تبدّى ذلك في كيفية مواكبة كبار الإعلاميين الغربيين (والعرب) لهذا الغزو ميدانياً، بعد موافقتهم على توقيع عقود مع الجيش الغازي، يمتنعون فيها عن ذكر ما لا توافق قوات الغزو على نشره. كانت تلك خيانة مهنية. (ترجمنا تلك العقود يومها في جريدة السفير).
ثم تبدّت أجزاء أخرى بعد قصف الأميركيين لفندق فلسطين في بغداد، والذي كان يؤوي المراسلين الصحافيين خلال غزو العراق، ما أدى إلى مقتل بعضهم وجرح آخرين، وبكيفية تعاطي إدارات وسائل الإعلام التي يعمل فيها أولئك المراسلون، بأقل قدر ممكن من الإدانة للمجرم الأميركي، كما تبيّن في مهمة تقصّي حقائق قمت بها شخصياً حين كنت ممثلة لمنظمة "مراسلون بلا حدود".
الحكومات الغربية التي أصبحت مجرّد ممثليات لتكتلات اقتصادية متحالفة مع إسرائيل، تقوم لأجل هذه الأخيرة بكلّ العمل القذر في تضليل الرأي العام، وسن القوانين الجائرة، وتزييف الإحصائيات
ثم اتضحت أجزاء أخرى من "البازل" في حرب تموز الإسرائيلية (2006) المدمرة علينا في لبنان، وتجاهل الإعلام القصف المتعمّد للمدنيين والصحافيين وسيارات الإسعاف. ومع "طوفان الأقصى"، تأكدت كلّ الظنون، ويا للأسف: هناك سقوف متحرّكة للحرية المهنية: ترتفع أو تنخفض، كما المد والجزر حسب الظروف والمصالح وتوازنات القوى.
لا أتحدث عن قنوات متحيّزة بالأصل مثل "فرانس 24"، أو "بي إف إم تي في"، أو "الحرّة"، فوسائل الإعلام هذه تابعة منذ زمن بعيد للزمن الإسرائيلي. إلا أنّ "بي بي سي" كما لمست شخصياً أثناء عملي كمراقبة للالتزام المهني (ميديا واتشينغ) في وسائل الإعلام، تميّزت دائماً، بوجود نواة صلبة تدافع عن نزاهة القناة حتى في أوقات الأحداث "الوجودية". كان هناك دائماً مجال للنقاش مع الهيئة. أحياناً تفوز بتصويب، وفي أحيان أخرى تفوز هي، ونادراً ما تنتهي الأمور دون اتفاق.
لكن في حدث غزة اليوم؟ يبدو أنه حتى هذه النواة لم يعد لها وجود. وإلا فما معنى ما تمارسه "بي بي سي" على عامليها ومراسليها من الصحافيين العرب (المشهود لهم بالنزاهة المهنية الزائدة أحياناً) أو ذوي الحساسية الإنسانية في موضوع فلسطين؟ وهي قضية مقاومة استعمار واضحة، خاصة للبريطانيين الذين هندسوا هذا الكيان؟
لقد كانت ممارسات "الهيئة"، حسب مصادر داخلية، "مفاجئة وصادمة للمحرّرين والمراسلين لدرجة الاختباء للبكاء في المراحيض"، حسب تعبير أحدهم! فما معنى كلّ هذا العنف تجاه صحافييها، مجبرة إياهم على السكوت عمّا يرونه خاطئاً في تحريرها وصياغاتها المنحازة، أو ما يرونه ظلماً، مضطهدة ضميرهم الإنساني الذي هو بالأصل منبع الضمير المهني. أليست هذه جريمة لا تقل بشاعة عن تضليل الرأي العام؟
من قال إنّه يحق للمؤسسة الإعلامية أن تطارد صحافييها على مواقعهم في السوشل ميديا، حيث يبدون آرائهم الشخصية؟
أما الأكثر إثارة للدهشة؟ فهو ذلك العنف الممارس خارج الدوام، وعلى حسابات الموظفين الشخصية! أصلاً، من قال إنّه يحق للمؤسسة الإعلامية أن تطارد صحافييها على مواقعهم في السوشل ميديا، حيث يبدون آراءهم الشخصية؟ هذا نوع "عصري" من التعديات! فكيف تحاسب مؤسسة إعلامية صحافياً على "لايك" أو تعليق على صفحته في "فيسبوك" أو إكس (تويتر سابقا)؟ هل يحق لها أن تسيطر على حياته بالكامل داخل الدوام وخارجه؟ ألا يعني هذا أن المؤسسة تستعبد، حرفياً، الموظف!
لا أعرف إن كانت هناك قوانين في بريطانيا مثلاً تسمح بهذا السلوك، وسنكتشف ذلك بمتابعة قضية صحافيي "بي بي سي" المعلّق عملهم والمنتظر التحقيق معهم، ولكن، حتى لو.. فمن قال إنّ القوانين مقدّسة؟ لقد شهدت الإنسانية قوانين جائرة تشرّع الفصل العنصري وقتل المختلفين ومعاملة المستعمرين كالحيوانات، فهل هي قوانين مقدّسة لا ينبغي خرقها؟
حرية الانسان هي المقدّسة. حق المعرفة هو المقدّس. واجب عدم تضليل الرأي العام هو المقدّس. حق الشعوب بتقرير مصيرها ومقاومة الاحتلال والاستعمار هي المقدّسة، وفي حال الصحافيين، فإنّ حريتهم في التعبير والسعي لإيصال الحقيقة بنزاهة إلى الرأي العام هو المقدّس.
هناك ترهيب لمن يُوصفون بأنّهم سلطة رابعة. سلطة تحوّلت اليوم إلى أداة بيد مضللي الرأي العام في أكثر الأوقات حاجة لدى العموم لمعلومة يسترشدون بها في بناء آرائهم. وهي آراء من المفترض أن تؤثر على الحياة العامة وسياسة البلاد.
وبهذا يمكن القول، إنّ سلوكاً من مؤسسة إعلامية وطنية اعتاد الناس الوثوق بها، وضلّلتهم، هو سلوك ربما يجب إعادة تصنيفه كدرجة من درجات الخيانة، ليس للمهنة فحسب، ولكن للبلاد جميعها.
عندها، لا يعود وصفها بالخيانة لوحده كافياً، بل ربّما يجب إضافة وصف عظمى. وهي تهمة يجب أن يحاكم المسؤولون عنها بالجدية نفسها التي يحاكم بها خونة الأوطان.