"وكسة" النشر في العالم العربي
لا يغيب عن القارئ ما حدث في مسابقة "أمير الشعراء" من فضيحة تحكيمية، ما كان لها أن تحدث لو كان الأستاذ الراحل، صلاح فضل، حاضرًا بيننا اليوم، بغضّ النظر عن القصة، وقضية الهمزة برفعها ونصبها وكسرها، واستكبار اللجنة وتفاخر أعضائها بجهلهم واختيالهم بألبستهم، وترفع المتسابق الشهم الشاعر الليبي عن الخوض والمُتاجرة بالقضية، سيما أنّ مثل تلك الأمور تحتاج لمن يُتاجر بها لبزوغ نجمه في أيامنا هذه. هنا، يعود لنا سؤال جال في ذهن عميد الأدب العربي طه حسين، سنة 1954م، في كتابه "خصام ونقد": "لمن تكون أحقية النشر؟".
إذا ذهبت إلى المكتبة وجالت عيناك بين أرفف الكُتب، ستُفاجأ بوجود روايات وكتب بأسماء وأغلفة آسرة للعين، فتظن (خطأ) أنها كتب ذات قيمة، وهي في الأساس، في حضرة الحصار الرأسمالي الذي نعانيه، كتب محشوة بالأغلاط الفكرية واللغوية والفنية والتدقيقية والتركيبية والنفسية والشخصية والذاتية والبنيوية والحيوية، مجرّد صور برّاقة أثيرة، لكن متنها فراغٌ كبير.
كُتّاب اليوم، سواء أبناء الكتابة البوليسية أو قصص الرعب، هم في الأساس أبناء نطفة تخللتها الصيغة الغربية، فتجد أغلبهم (وهنا لا ألوم اللون الأدبي بل الكُتاب أنفسهم) ضِعافًا لغويًا وفكريًا، ونجدهم يعانون مع لغتهم الأم العربية، إذ يرونها ثقيلة على اللسان، وذلك لأنهم يتحاشون تراكيبها ويخشون أساليبها، لأنها كالهرم، ما إن تشخص له الأبصار حتى تعيا عن طول النظر وطول المقام.
أيضاً، نجد هؤلاء يتحايلون باستخدام عاميتهم الجلفاء الغلفاء، التي لا تنم سوى عن سوقية وفوضوية التفكير القائم في ذهنيتهم، بل والأنكى أنّ بعض هؤلاء يُعتبرون (مثل ما يحصل في مصر الآن) أهم كُتابها الشباب الحاليين، وأساسًا لنهضة القراءة والوعي الثقافي في البلاد، عجبي!
خلال محاولاتي الدوؤبة لنشر كتابي عن فلسطين أو روايتي الفلسفية عن فريدريك نيتشه، قابلت العديد من دور النشر المصرية والعربية، وما أذهلني، بغضّ النظر عن إجماعها على رفض العمل سوى بمقابل مادي، أنّ إحدى تلك الدور، غزيرة الإنتاج، اعترف القائم عليها بأنه لن يُغامر بالنشر لكاتب أو صحافي مغمور غير مشهور، فلو كُنتُ (حسب كلامه) "إنفلونسراً أو بلوغراً أو مشهوراً بأي شكل"، فهو يضمن لي وله بيع الكتاب أو الرواية، ذلك لأننا في وسط لا يقرأ، حسب تعبيره.
والغريب أنّ مثل تلك الدور لا تزال تتعامل مع القُراء العرب على أنهم بهائم لا بد من تقديم وجبة العلف والبرسيم الخاص بالمذاق المُعتاد لضمان الوجود، ونفس القُرّاء الذين يرفضون الكتابات الركيكة والخليعة والتقاليع الغربية، هم أنفسهم الذين يحاول صاحب الدار هذا مغازلتهم لنيل بركتهم.
الجمهور العربي يقرأ وليس بمغفل أو غبي، بل هو جمهور يقرأ في كلّ شيء وعن أي شيء، وليست هذه هي المشكلة، بل المشكلة في رؤوس الأموال التي تأبى سوى جني الأرباح، ولو على حساب الذوق العام وعقلية القارئ، ولو تعرّضت لهجوم دائم، فلا يهم ما دام الربح قائما!
كتب محشوة بالأغلاط الفكرية واللغوية والفنية والتدقيقية والتركيبية والنفسية والشخصية والذاتية والبنيوية والحيوية، مجرّد صور برّاقة أثيرة، لكن متنها فراغٌ كبير
قابلت أحد كُتاب الروايات البوليسية، وهو كاتب مصري مشهور، وسيناريست معروف، وجدته على درجة عالية من السطحية في تناول الأمور، فلا يعرف أبعادها الفلسفية والعلمية، ولا يهتم بالتعريفات، بل بالتجارة! نعم يتناول الرواية على أنها بضاعة/ سلعة، والكتاب نفس الشيء، أي فكره متحور حول سؤال: "كيف سأحقّق بهما النجاح المرغوب تجاريًا؟".
واللافت أنّ ذلك الكاتب صار في الدرك الأسفل من حيث استفتاءات القُراء، رغم انتشار رواياته، إلا أنها بإجماع قرائه "خرافات وخبل وهبل وطبل وزمر وردح" بلا فائدة، فصار مجرّد اسم محشو بالـ"لا شيء".
والغريب أن صفحته على goodreads مليئة بهجوم من القراء الذين يحاول مغازلتهم كصديقه صاحب الدار المذكور أعلاه، وهذا دليل على وعي الجماهير، فذلك الكاتب لا يعنيه من الاستمرارية سوى جني الأموال، كتاجر وليس ككاتب، أما الجمهور فينتظر الموهوب والمُبدع.
لعل هناك أملاً باقياً.