معالم النقاش حول مستقبل غزّة بعد الحرب
شكّلت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 وما تبعها من حرب إسرائيلية متوحّشة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وكافة الأراضي الفلسطينية المستهدفة في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل عام 1948، صدمة ورجّة للمجتمع الدولي بكافة تمثّلاته، إذ غيّرت من المنظور الدولي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ما يعني وجوباً تغيّر قواعد اللعبة والدخول في مرحلة جديدة من الصراع، تتجاوز الصيغ القانونية والسياسية القديمة.
ويظلّ الافتراض السائد هو أنّ هذه الحرب ستعيد تشكيل منظومة العلاقات الدولية في المنطقة والشرق الأوسط برمّته، وتعزّز الطروحات والرؤى والمقاربات الدولية المختلفة حول مستقبل وشكل الحكم في القطاع هذا الافتراض.
نشر قوات دولية وسلطة فلسطينية "متجدّدة"؟
في ضوء التصريحات الرسمية الدولية، وما تكشفه المصادر الإعلامية المختلفة، تتّجه مناخات الأفكار والخطط الدولية السائدة حول مستقبل غزّة بعد الحرب، نحو نشر قوات دولية كمرحلة انتقالية تؤسّس للسماح لسلطة فلسطينية تتولى المسؤولية في قطاع غزّة، إلا أنّ هذه الطروحات يكتنفها تباين وغموض في شكل هذه القوات الدولية والسلطة الفلسطينية المتخيّلة في غزّة.
وفي هذا السياق، طرحت إسرائيل عدّة سيناريوهات وخيارات لمستقبل قطاع غزّة بعد الحرب، رغم عدم حسم المعارك حتى الآن أو تحقيق انتصار ملموس على الأرض. ووسط الخطط الإسرائيلية التي تتضمن السيطرة الأمنية على غزّة أو جزيرة اصطناعية قبالة شواطئ القطاع، فقد شملت الخطة تسليم القطاع لتحالف دولي، يتألف من عدّة دول.
تتّجه مناخات الأفكار والخطط الدولية السائدة حول مستقبل غزّة بعد الحرب، نحو نشر قوات دولية كمرحلة انتقالية تؤسّس للسماح لسلطة فلسطينية تتولى المسؤولية في قطاع غزّة
وكانت الإدارة الأميركية قد ناقشت فكرة نشر قوات أمن دولية في قطاع غزّة كمرحلة انتقالية، وتطورّت الفكرة بعد لقاء مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان بالرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله، يوم 15 ديسمبر/ كانون الأول 2023، إلى قوة بقيادة السلطة الفلسطينية تتولى المسؤولية في غزّة، على أن تساهم الدول المجاورة في هذه القوة بمجرّد انسحاب إسرائيل من القطاع. وتنتهي هذه المرحلة الانتقالية بتسليم القطاع إلى سلطة فلسطينية "متجدّدة" بحسب التعبير الأميركي.
ولا تتعارض الرؤية الأميركية كثيراً عن تلك الإسرائيلية، بالرغم من تباينات المواقف الثنائية ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علانيةً عودة السلطة الفلسطينية لإدارة غزّة، حيث صرّح وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، في مقابلة أجرتها معه صحيفة وول ستريت جورنال، بقوله: "إنّ إسرائيل تتطلع إلى تسليم مسؤولية حكم المنطقة إلى تحالف دولي، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول ذات الأغلبية المسلمة، أو إلى القادة السياسيين المحليين في غزة". فيما يبدو أنّ تصريحات نتنياهو تأتي في إطار رفع سقف المطالب الإسرائيلية عند حسم أي نقاشات أمنية مستقبلية بخصوص القطاع.
وبحثت دول الاتحاد الأوروبي خيار تدويل إدارة القطاع بعد الحرب، مقترحةً تشكيل تحالف دولي يدير غزّة بالتعاون مع الأمم المتحدة. فيما كشفت صحيفة الأخبار اللبنانية عن رؤية فرنسية سعودية لإنهاء الحرب في غزّة، تضمّنت مقترحات عدّة، من بينها إنشاء قوات عربية لحفظ السلام تحت مظلة الأمم المتحدة لإدارة القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، واستخدام ورقة تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية للضغط لتحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وضمان توافق دولي حوله، والدعوة إلى عقد مؤتمر للسلام في السعودية.
فيما رفض الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إقامة نظام حماية تحت رعاية الأمم المتحدة في قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب الحالية. ودعا إلى مرحلة انتقالية تشارك فيها أميركا والدول العربية، تسمح بسلطة فلسطينية قوية تتولى المسؤولية في غزّة.
رفض الأردن طرح انتشار قوات عربية في غزّة بعد انتهاء الحرب، وأي خطة لاحتلال إسرائيل أجزاءً من غزّة
صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باستعداد بلاده ورغبتها في أن تكون جزءاً من "البنية الأمنية في غزة" بما في ذلك أن تكون ضمن الدول الضامنة، فيما رفض الأردن طرح انتشار قوات عربية في غزّة بعد انتهاء الحرب، وأي خطة لاحتلال إسرائيل أجزاءً من غزّة. وأكّدت جمهورية مصر العربية دعم القاهرة لعودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع.
وبينما لم تبحث التصريحات والبيانات الرسمية المصرية تفاصيل ترتيبات مستقبل القطاع، فقد كشفت مصادر مصرية إعلامية عن رؤية مصرية، تقوم على فكرة دمج حركة حماس في السلطة الفلسطينية، وإجراء مصالحة وطنية فلسطينية شاملة، وتشكيل حكومة تكنوقراط، تكون فيها مصر ضامنة، ومعها شريك عربي أو دولي أو الأمم المتحدة.
على صعيد حركة حماس، فقد قال رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية في كلمة متلفزة: "منفتحون على نقاش أي أفكار أو مبادرات تفضي لوقف العدوان، وتفتح الباب على ترتيب البيت الفلسطيني على مستوى الضفة وقطاع غزّة"، مضيفاً بقوله أنّ "أي رهان على ترتيبات في غزّة أو في القضية الفلسطينية عامة من دون (حماس) وفصائل المقاومة، وهمٌ وسراب".
ولا تمكن المراهنة على دور فاعل ومؤثر لإيران في الترتيبات المستقبلية لقطاع غزة، وستتعامل إيران مع القضية من وجهة نظر واقعية وليس أيديولوجية، خاصة أنّ شركاء إيران الاستراتيجيين في موسكو وبكين لم يعلنوا عن دعمهم الكامل لحماس، واكتفيا بدعوات وقف الحرب والإبادة الجماعية، من دون الشروع في تحرّكات سياسية نشطة تعكس ثقل وحجم تأثير البلدين العملاقين. ما يعني وجوباً عودة أنشطة للولايات المتحدة إلى المنطقة، لا استمراراً لانحسار دور واشنطن وتأثيرها كما اعتقد البعض، من دون أن يعني ذلك تقليص الحضور الروسي أو الصيني المتزايد أيضاً في المنطقة.
المقاربة المصرية هي الأكثر ترجيحاً
في ضوء المعطيات التي سبق عرضها، تبدو المقاربة المصرية للوضع في قطاع غزّة ما بعد الحرب الأكثر ترجيحاً، كونها تكرّس القواسم المشتركة في النقاشات الإقليمية والدولية حول مستقبل غزّة ما بعد الحرب، إضافة إلى أنّها الدولة العربية الوحيدة التي لها حدود مشتركة مع غزّة، ما يجعل موقفها الأكثر فاعلية وتأثيراً، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المقاربة المصرية ستقوم على الموائمة ما بين الحسابات الأمنية المصرية، وتلك الإقليمية والدولية.
ولعلّ استمرار الانقسام الفلسطيني هو ما يجعل هذه الطروحات تفرض نفسها على المناخ العام، فهذه الطروحات المختلفة ليست بطارئة بقدر ما تغلّف محظورات سلطوية، وسياسات سيطرة، وقراءة اختزالية للتاريخ الفلسطيني تتحمّل وزرها القوى الفلسطينية المتناحرة. فلو كانت هناك صيغة فلسطينية توافقية لشهدنا رفضاً ليس فقط للنظام المقترح لما بعد الحرب، بل رفضاً مبدئياً لطرح الموضوع وشرح إشكالياته ومقاربته، والبت باستقلالية القرار الوطني وشرعية الكيان الوطني الفلسطيني الذي تمثّله منظمة التحرير الفلسطينية على نحو فعلي لا اسمي.