حصان التفكير
سعيد ناشيد
التفكير عملية صعبة لأنها تتطلّب قدراً عالياً من التركيز، لأطول مدّة ممكنة وأبعد مدى ممكن. ذلك أن من خصائص التفكير ألا يكون سريعاً، خلاف ما تعلمناه من المدرسة. لذلك ليس سهلاً العثور على أشخاص يفكرون، حتى ضمن المتعلمين.
رغم أن التفكير في متناول الجميع إلا أنه ضالة الجميع.
أين المشكلة؟
إن كان التفكير يقتضي القدرة على التركيز لأطول مدة وأبعد مدى، فإن الصعوبة الأساسية تكمن في أن العقل البشري بطبعه يغلب عليه الجموح، فلا يستطيع التركيز في نقطة واحدة أو قضية محددة لدقائق متواصلة دون أن يشرد، كما لا يستطيع التفكير في المستقبل البعيد أو على المدى الطويل دون أن يجفل.
فوق ذلك كله فإنّ الانفعالات المنهكة قد تحاصر التفكير في معظم الأحيان، مثل الخوف والجشع والحقد والحسد والألم والملل، وما إلى ذلك من أحاسيس تستنزف ذكاء معظم الناس.
هنا قد يتراءى لنا أن الذكاء الاصطناعي يتفوق في القدرة على الاشتغال بهدوء في "المشاعر"، وتركيز "ذهني" لا ينقطع ما لم تفرغ البطارية أو تنقطع الكهرباء.
العقل البشري، بسبب طبقاته الدنيا والتي تعود إلى المرحلة الحيوانية وصولاً إلى عصر الكهوف، وبكل ما يختزنه في ذاكرته البعيدة، غير جاهز للتفكير طويل الأمد، ولا هو جاهز للتفكير في المدى الزمني الطويل، فعندما يغيب الخطر المباشر يتشتت التركيز في كل الاتجاهات، تأهباً للمخاطر غير المتوقعة، تماما مثلما تفعل الوحوش والزواحف والحشرات السامة، وأما حين يأتي الخطر، فإن العقل لا يركز إلا الوقت الضروري للنجاة.
الانفعالات المنهكة قد تحاصر التفكير في معظم الأحيان، مثل الخوف والجشع والحقد والحسد والألم والملل
غير أن نزوع العقل البشري إلى الجموح والشرود والتشتّت له وجهان متضاربان، فبقدر ما يُعرضه لمخاطر الاستنزاف والاستسلام للخرافات، فإنه يحمل سرّ حريته وقدرته الإبداعية. والمطلوب بعد ذلك هو ترويض حصان التفكير لغاية استثمار جموحه في أفق إبداعي.
غير أن أحد أهم اكتشافات الفلسفة المعاصرة أن الجهاز الحامل للتفكير هو الجسد بأكمله. لقد انتقلت حاكمية الجسد من الرأس مع أفلاطون، إلى مشاركة كل أعضاء الجسد مع نيتشه، وذلك عقب مسار تاريخي طويل. ما يعني أن الترويض ينبغي أن يشمل العقل والجسد معا، وذلك من أجل تحسين القدرة على التركيز، وبالتالي القدرة على التفكير، ولكي لا يخسر الإنسان سيادته أمام الذكاء الاصطناعي.
إن كان العقل مثل الحصان الجامح، يحتاج إلى الترويض، فلأن الجسد بدوره كذلك، بل الجسد هو عين العقل، فكما أن العقل يهيم بلا اتجاه، ما يجعله في حاجة إلى لجام المنطق، أو المنهج، فإن اليدان الفارغتان بدورهما تجمحان بلا توقف، والعينان المسترخيتان تدوران في كل الاتجاهات، والقدمان غير الموجهتين تتحركان جيئة وإيابا بلا قصد. هنا يكمن الدافع الجسدي إلى الرقص، من حيث هو جموح جمالي فاتن.
لذلك كله لا يستقيم ترويض العقل بدون ترويض الجسد. كما لا ينبغي لنا أن ننسى أن أفلاطون نفسه، رغم كل ما يقال عن موقفه من الجسد، لم يطرد الرياضة والرقص من أكاديميته التعليمية.
في واقع الحال لا يوجد اختلاف في مستوى الذكاء بين بني البشر. ادعاء العكس هو محض عنصرية، أو مجرد خرافة بلباس العلم، أو العلموية على الأصح. كل ما في الأمر أن القدرة على تفادي تقطع وتشتت التركيز الذهني مهارة تختلف من شخص لآخر، وهي بالأحرى تمارين يمكن ممارستها بنحو دائم، كما أنها تتأثر بالانفعالات التي تغمر الإنسان لحظة التفكير. هنا يكمن السر الذي يجعل البعض يبدو كأنه أكثر ذكاء من الآخرين.
وإليك التمرين التالي:
حين تمارس الرياضة بتركيز عالٍ، وتمارس القراءة بتركيز عالٍ، تمتلك القدرة على التفكير بتركيز عالٍ.
تلك هي الوصفة.