تعويذة قيس سعيّد

09 يونيو 2022
+ الخط -

كاتب هذه السطور تعني له تونس ما تعني لجيل كاملٍ تعرّف من خلال ثورة الياسمين طعمَ الحرية، وإمكانَ انتصار الشعب على الطغيان والاستبداد، وحليفه ورديفه الفساد.

تعني له تونس ما تعني حين طوّح الشعب بواحدٍ من ديكتاتوريي أوطاننا ومستبديها الذين تناقلت الأخبار المتواترة أنه كان يعدّ على الشعب وزوّار البلد الأنفاس، وكان عنده كل الشعب "متّهما حتى يتثبت ولاؤه"، وكل زائر "خطرا حتى تتأكّد مغادرته".

كاتب هذه السطور معجبٌ ببلد فريد داخل جغرافيا تعيش حالة شكّ مزمن في إمكاناتها، وحالة تشكّك من إمكان الانطلاق نحو الحرية.

كاتب هذه السطور لا يدّعي الإلمام بكل تفاصيل المشهد التونسي إلا اشتغالا يكاد يكون يوميا على تقارير صحافية أو متابعات بحكم عمله، لكنه سيتجاسر ويقبل أن يورّط نفسه مستندا إلى حقه في الكلام في ما يعنيه، وتونس تعنيه.

وقبل ذلك وبعده، قيس سعيّد قلب كل شيء ولم يترك لأحد "حقّ الصمت" أو لزوم الحياد. فلا تكاد تفهم سرّ هذا التغوّل الذي "يرفل" فيه، إلى حدّ أنه ما عاد هناك شيءٌ مستحيلٌ في العبث بالدولة والقوانين والرصيد المعنوي لبلد أكبر بكثير من الجغرافيا التي يقيم عليها.

تونس في لحظة تحوّلت فكرةً، ومازالت كتابا مفتوحا، يقدّم في حاضرها الرئيس أستاذ القانون الدستوري درسا تطبيقيا في غاية الرداءة عن فهم معطوب وانتهازي للقانون وفصل السلط واحترام الصلاحيات.

تونس، في ميزان الجغرافيا السياسية، مازالت تقدّم معالم طريق ودليل استرشاد في أرض عربية قاحلة بدون علامات تشوير نحو الديمقراطية. ولهذا تحديدا تعنينا، وحتى في درسها الأكثر رداءة مع قيس سعيد تكون مفيدة.

فهل يتصوّر عقلٌ أن يحدث انقلاب على ثورة (فاقعٍ لوْن ثوريتها) بدون دبّابات ولا نياشين جنرالات، ولا حتى رصاصة تطلق في الهواء للتخويف؟

فعلها قيس سعيّد بخفّة الساحر، كمن ألقى تعويذة وهو يرطن بعربية من زمن الأوّلين ليدوّخ الجميع في تونس، إلى درجة أن يجلس جنرالات ينتسبون لجيشٍ حمى الشعب إبان الثورة ورفض الإيغال في الدماء وكأن على رؤوسهم الطير، بوجوه شاحبة وعيون مشدوهة، ذاهلين أمام ما يسمعون، أو لعلّهم لا يسمعون. وحده يتكلّم بما يفهمون وما لا يفهمون، ووحده صاحب الحقيقة والناطق باسمها. بل تكاد تشعر باعتقاده أنه "رسول من السماء" وهو يطلق نيران لسانه على كل ما يتحرك في البلد، ويشيطن الجالسين والواقفين، والمهتمين وغير المهتمين، والحلفاء والمعارضين، "إن لم يسبّحوا بحمده".

قيس سعيد ينكّل بثورة الشعب وبكل رصيد تونس في العصر الحديث، باسم الشعب. سعيّد يبدو عقابا لمن يفكّر في الحرية في أوطان يريد أعداء الحرية فيها الإقناع أنها عصيّة على الديمقراطية. قيس سعيد اختبار تونس، وامتحانها الشديد، وكربها العظيم، بعد ديكتاتورية السابقين، إلا من حَكَم بعد الثورة وترك القصر "بإحسان".

شعب تونس الذي أنجز ثورة ضد بن علي لا أتصور أنه يقبل العودة للظلم والظلام وقد ذاق طعم الحرية والنور

تتأمل جيدا لتجد أنك أمام حالة ديكتاتورية فريدة وعجيبة. لا حزبَ ينتسب إليه يسند ظهره، ولا لوبيات ومراكز نفوذ تدعمه، ولا انتساب لمؤسسة أمنية أو عسكرية له فيها أصلٌ وفصل، ولا هو من الثائرين، ولم تُحِسَّ له وجودا أو تَسْمَع لَه رِكْزا أيام الديكتاتورية وما بعدها، ثم يصير إلى ما صار عليه، بل يوقف بأهوائه البلد على قدمٍ، ويغلق باب البرلمان بالسلاسل، و"يسرّح" النواب المنتخبين كأي موظفين، ولا من يردّه عن حماقاته. وحتى من يرفعون الصوت ضده بحّت أصواتهم عن أن يُسمعوا الشعب، أحرى أن يحرّكوه.

فهل فيهم "قابلية ديكتاتورية"؟ (اقتباسا من "قابلية الاستعمار" لمالك بن نبي الجزائري). الراجح وغالب الظن لا.

شعب تونس المُخْتلف على نفسه وما يريده حدّ الانقسام، كأي شعب حيّ، لا يقبل الظلم، وإن سكت عليه قهراً. شعب تونس الذي أنجز ثورة ضد بن علي لا أتصور أنه يقبل العودة للظلم والظلام وقد ذاق طعم الحرية والنور. فما الذي حلّ به؟

لربما أنهكته الأحزاب وخطابات الأحزاب وحروب الأحزاب وسوقية بعض الأحزاب، وتشنيعها بالسياسة تحت قبّة البرلمان وفي الإعلام وغيرهما. لكنه قطعا لا يقبل على نفسه الهوان والتمثيل بالوطن.

لربما جرّب أهوال مقاومة الديكتاتورية ولم يكد يطوي دفاتر جرائم الديكتاتور مع هيئة الحقيقة والكرامة التي سعت لـ"جبر الأضرار والخواطر"، ولا يريد أن يفتح دفتر حسابٍ جديد وقد رأى "تحيّز" الجيش والقوات الأمنية لقيس سعيد، دون أن يفهم سرّ هذا التحيّز ومغزاه ودواعيه، بصمت طال أكثر من اللزوم حتى فتح طريقا سيّارا أمام الرئيس ليشيّد جمهوريته الجديدة المليئة بالأوهام والتخاريف.

شعب تونس، الذي فصّل في انتخابات ما بعد الثورة الأحجام السياسية بذكاء، منعا للتغوّل ولميلاد ديكتاتورية جديدة باسم الأغلبية، لا يقبل ميلاد ديكتاتورية جديدة تتّكِئ على الشعبوية وادعاء الوطنية لقتل الحرية.

لكن ما الذي جرى حتى صارت تغريبات قيس سعيّد مشروعَ دولة، وفي سبيله يمكن أن يخترع العجلة من جديد وهو يطلق الاستشارات الإلكترونية وكأن الدستور سلعةٌ على رفّ في متجر لا تُباع كما يأمل المُصَنّع وتحتاج استبيانا للزبناء؟

ما الذي جرى حتى صار إعفاء القضاة وحلّ المؤسسات الدستورية بجرّة قلم ممارسةً روتينية، لا يحتاج معها رئيسُ المراسيم و"الخطر الداهم"  للتبرير، كما ليس من حقّ "الضحايا" الشكوى والاعتراض؟ وأين يعترضون أصلا وقد جعل كل مؤسسات الرقابة تحت إبطيه، مرددا، كما في الفيلم المصري الشهير "الجزيرة": "من النهارده مفيش حكومة.. أنا الحكومة".

ما الذي جرى حتى صار إغلاق البرلمان وطرد النواب سهلا ويسيرا ولا يحتاج كثيرَ فذلكة ولا تدوير كلام، إذ لا يهمّ أن يوصف بالتجميد أو بالحلّ أو أية مفردة أخرى رائجة في قاموس القانون، مادام كل هذا القانون عرضةٌ للتهتّك في دولة قيس سعيد؟

ما الذي جرى حتى كبّلهم جميعا ولا قدرة على الحشد ضده رغم أن حماقاته سارت بها الركبان، وأضحت من فرط عجائبيتها تصلح للتنكيت؟

قيس سعيّد، إلى أمور كثيرة، يستثمر في تعب الناس، فالثورة وشارع التغيير ليس فسحة في حديقة مع الأولاد. يستثمر في حنق الشعب وغضبه. يستثمر في انقسام قبيحٍ وممجوج للهيئات السياسية ومكايدات. يستثمر في انتقال ديمقراطي لم يستوِ تماما على توافقات أكثر وضوحا وتماسكا وحسْما. يستثمر في محيط إقليمي رسمي مصاب بفرْط الحساسية من الديمقراطية، وفي سياق عالمي مستعد لـ"غضّ البصر" عن الانتهاكات والانتكاسات، وحتى القتل، مُقايضا بصفقات تسليح أو مقابل ضخّ أكثرَ لبراميل النفط في السوق، فأحرى أن يلتفت إلى "إجراءات استثنائية" ولو مهّدت لحالة انقلاب.

لهذا قيس سعيد ديكتاتور فريد وعجيب، يعرف كيف يمشي في حقل الألغام إلى حدّ الآن، لكن لا تعرف متى يضع قدمه في المكان الخطأ، وقد بدأت تلوح معالم انفضاض بعض من دعموه من حوله، فـ"للصبر حدود".

ومع ذلك، ألا يصدح التوانسة في نشيدهم الوطني:
إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي .. ولا بد للقيد أن ينكســر

وهذا ليس إنشاء، بل مسؤولية تطوّقهم لاستعادة الوطن من الأهواء، وقيس سعيد بات حجرا موجعا في حذاء تونس يعرقل سيرها نحو ما بدأته ثورة الياسمين.

دلالات
مصطفى ابن الرضي .. المغرب
مصطفى ابن الراضي
صحافي مغربي، مساعد سكرتير تحرير في موقع "العربي الجديد".