الخرمية كمذهب تمردي
تعتبر ثورة بابك الخرمي من أخطر الثورات الدينية التي مثلت كابوساً حقيقياً للدولة العباسية، فأقلقت مضاجعها قرابة 20 عاماً ونيفٍ في خلافتي المأمون والمعتصم بالله، فانتعشت في ظلها عقائد الخرمية البائدة وتعاليم الإباحية الفاضحة، وأحدثت نوعاً من الفوضى الاجتماعية والسياسية في بلاد فارس وأذربيجان، وزادت خطورتها عندما كادت أن تطوق الدولة العباسية بتحالفها مع البيزنطيين العدو التقليدي للعباسيين.
جذور الخرمية
عُرفت بلاد فارس (إيران) منذ قِدم الزمان بكثرة المذاهب والمعتقدات الدينية، وكانت من أشهر تلك المذاهب (الإباحية أو المزكية أو الخرمية) التي أسسها رجل يدعى (مزدك الفارسي أو النبي مزديك) في القرن السادس ميلادي، وقد قام مذهبه على إباحة كل المحرمات وشيوع الأموال والأعراض بين الناس دون أي قيد أو ضابط.
ووجد (مزدك الفارسي) ضالته في اعتناق الإمبراطور الفارسي (قُبَاذ بن فيرز) المزكية، وجعلها المذهب الرسمي للإمبراطورية الفارسية بدلاً من الديانة (الزرادشتية) التي كانت سائدة في أرجاء الإمبراطورية وقتها، إلا أنه وبعد وفاة (قُبَاذ بن فيرز) وتولي ولده (أنو شروان) مقاليد الحكم في الإمبراطورية الفارسية، تعرض مزدك الفارسي وأتباعه لشتى أصناف العذاب والتنكيل، فلاحق مزدك الفارسي حتى ظفر به وقتل، وبعد مقتل مزدك الفارسي استمرت زوجته (خرما) في نشر تعاليم زوجها، وأصبح أتباعها يعرفون باسم الخرمية.
وفي ظل الفوضى التي ضربت الدولة العباسية بعد مقتل الخليفة الأمين على يد أخيه المأمون، عادت الخرمية لتطل من جديد، فزاد نشاطها وقويت شوكتها، عندما تمكن رجل يدعى (بابك بن بهرام أو بابك الخرمي) في خضم هذه الفوضى من التقرب من أحد أمراء الخرمية في أذربيجان (جاويذان)، وأصبح مع الوقت ساعده الأيمن وكاتم أسراره، إلا أن (جاويذان) هذا سرعان ما قتل على يد أحد إخوته، وبعد وفاة (جاويذان) عرضت زوجة (جاويذان) على بابك الخرمي الزواج، ومن ثم مهدت لبابك الخرمي طريق الزعامة للخرمية عندما أخفت نبأ موت زوجها (جاويذان)، وجمعت رجاله وأخبرتهم أن (جاويذان) قد أخبرها أنه سيموت، وأن بابك سيملك الأرض، ويقاتل الجبابرة، ويعيد إلى الخرمية مجدها القديم.
عندما شعر بابك الخرمي باقتراب نهايته استنجد بحليفه الإمبراطور البيزنطي (تيوفيل)، وأخبره أن الجيوش العباسية كلها خرجت للقتال، وأن الدولة العباسية صارت خاوية خالية ممن يدافع عنها
ثورة بابك الخرمي
بدأ بابك الخرمي زعامته للخرمية باتخاذ الزندقة والإلحاد شعاراً لحركته، فناصب الإسلام العداء باعتباره عقيدة رجال السلطة (الدولة العباسية)، فكان اعتناق الثائرين للخرمية بمثابة معارضة ثورية للسلطة الحاكمة وأجهزتها، واستغل بابك الخرمي قتل العباسيين لأبي مسلم الخراساني في إثارة مشاعر الفرس ضد العرب، كما رفض كل الفروض الدينية وأباح شرب الخمر، وأقدم على قتل كل من خالفه، وبث بذلك الرعب في قلوب معارضيه.
كما قام بابك الخرمي بالإغارة على قلاع وحصون ومدن العباسيين في أذربيجان، وقاد عدة حملات مفاجئة لخلق الذعر والارتباك بين صفوف الجيش العباسي، ما أدى إلى هلاك الكثير من العباسيين على الأراضي الأذربيجانية، كذلك إنشاء بابك الخرمي عدداً كبيراً من القلاع والحصون المنيعة حتى تكون ملاذاً قوياً يستطيع اللجوء إليه في حالة مهاجمة العباسيين له، كذلك تحالف بابك الخرمي مع إمبراطور البيزنطيين (تيوفيل) ضد العباسيين.
في الطرف المقابل، كان يدرك الخليفة المأمون الخطورة التي يمثلها بابك الخرمي وحركته على استقرار الدولة العباسية، إلا أن المأمون بسبب انشغاله باضطرابات داخلية لم يسارع لمحاربة بابك الخرمي، وعندما وجد المأمون متسعا من الوقت لمحاربة بابك الخرمي، فإنه لم يستطع طوال فترة حكمه أن يقضي على شوكة الخرمي أو حتى أن يضعفه، لذلك كانت إحدى وصايا المأمون الأخيرة لأخيه وولي عهده المعتصم بالله قبل أن توافيه المنية أن يسرع بالتصدي لبابك الخرمي وأتباعه بكل ما أوتي من قوة عسكرية ممكنة.
عندما تولى المعتصم بالله مقاليد الحكم في الدولة العباسية عام 833م وضع صوب عينيه القضاء على بابك الخرمي، ولإضعاف بابك الخرمي ومن ثم القضاء عليه أعد المعتصم جيشاً كبيراً بقيادة أحد قادته (أبي سعيد محمد بن يوسف) الذي توجه إلى منطقة همذان (إيران) المحاذية لمنطقة نفوذ بابك في أذربيجان، فتمكن من دك حصونها وقلاعها وتطهيرها من أتباع بابك الخرمي، وقبض خلال حملته على عدد أكبر من قادة الخرمية على رأسهم ساعد بابك الخرمي الأيمن؛ قائد يدعى (طرخان).
وبعد نجاح الحملة العباسية الأولى قرر المعتصم بالله توجيه ضربته القاضية والقاصمة لبابك الخرمي، فأعد جيشاً كبيراً بقيادة أحد قادته الأقوياء (الأفيشين) الذي توجه بدوره نحو أذربيجان للاستيلاء على مدينة (البذ) عاصمة بابك الخرمي، فدارت ما بين عامي (835 – 837م) عدة معارك طاحنة بين الأفيشين وبابك الخرمي، تمكن خلالها الأفيشين من تحقيق عدد من الانتصارات الساحقة ببابك الخرمي في معركتي أرشق ونهر كلان روذ.
وعندما شعر بابك الخرمي باقتراب نهايته استنجد بحليفه الإمبراطور البيزنطي (تيوفيل)، وأخبره أن الجيوش العباسية كلها خرجت للقتال، وأن الدولة العباسية صارت خاوية خالية ممن يدافع عنها، فاستجاب تيوفيل لدعوة بابك الخرمي وأعد جيشاً كبيراً قدر بـ100 ألف مقاتل.
كانت خطة تيوفيل ترمي إلى الاتجاه إلى أعالي الفرات، ومن ثم الاتصال ببابك الخرمي في أرمينيا وأذربيجان، ومد المعونة المطلوبة لبابك للتصدي للعباسيين، إلا أن تيوفيل جوبه بمقاومة عنيفة من قبل القوات العباسية المرابطة في الحصون الشمالية في العراق والشام، فاضطر تيوفيل إلى التراجع والعودة دون أن يحقق الهدف من حملته وهو إنقاذ حليفه بابك الخرمي من الفناء.
في المقابل، كانت الجيوش العباسية بقيادة الأفيشين عام 837م قد تمكنت من سيطرتها على جميع الحصون والقلاع والطرق الجبلية المؤدية لمعقل بابك الخرمي، ثم بدأت المعركة الفاصلة فهاجم العباسيون معقل بابك في مدينة (البذ)، ونجحوا في اختراق الأسوار واقتحموا المدينة وأشعلوا فيها النار، ووقع أبناء بابك الخرمي ومعظم أتباعه في الأسر.
أما عن نهاية بابك الخرمي فقد أسرع بعد سقوط عاصمته مع بعض أتباعه وفر إلى أرمينيا متنكراً في زي التجار، إلا أن الأقدار شاءت أن يشتري بابك الخرمي شاةً (خروفاً) من أحد الرعاة في تلك المناطق، فتعرف الراعي عليه فوشى به لأحد القادة العباسيين في نواحي أرمينيا، فتم الإيقاع به وسلم للأفيشين الذي أرسله للمعتصم بالله، فأمر المعتصم بالله السياف أن يدخل السيف بين ضلعين من أضلاع أسفل القلب ليطيل عذابه ففعل، ثم أمر بقطع يمينه وجز لسانه وصلب أطرافه مع جسده، ثم حمل رأسه إلى بغداد وبلاد فارس وأذربيجان. وفي المقابل، أغدق المعتصم بالله على قائده الأفيشين بالذهب والفضة والضياع وألبسه تاجاً ووشاحين كما كافأ جنده.