هل يختار السبسي طريق السيسي؟

14 نوفمبر 2014
+ الخط -

يمكن الجزم بأن تونس شكلت، بجدارة، مهد الثورة في العالم العربي ونموذجها المتفرّد، وهذا الاستثناء، ناشئ من حرص نخب تونس على تجاوز الخلافات السياسية والإيديولوجية، من أجل المرور الآمن من المرحلة الانتقالية، إلى بناء نظام ديمقراطي تعددي، لكن، يبقى العامل الحاسم في حفاظ تونس على نموذجها الديمقراطي إلى اليوم، هو مرونة النخبة الحاكمة بعد الثورة، حيث أدرك الائتلاف (الترويكا) المشكل من حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي.. خطورة المرحلة، وتمكن من تخطي أزمات تفجرت بعد بروز خلافات سياسية بين الحكومة والمعارضة، حول تدبير قضايا سياسية وأمنية.

بعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، وحصول حركة النهضة على أغلبية المقاعد، وتشكيل حكومة ائتلافية تحت قيادة النهضة، بدأت تطفو خلافات سياسية بين المعارضة والحكومة، حول عدة قضايا، منها توزيع بعض الحقائب الوزارية، وأسلوب معالجة الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية، وكان من أهم مآخذ المعارضة على حكومة النهضة، ضعف أدائها في تدبير الملف الأمني، ما أدى إلى وقوع عمليات إرهابية، ذهب ضحيتها عناصر من الشرطة والجيش وقياديين يساريين.

لكن، أدرك الائتلاف الحاكم في تونس خطورة المرحلة، في ظل محيط إقليمي ملتهب، خصوصاً بعد وقوع انقلاب عسكري في مصر، وأنه لا يستطيع أن يحكم من دون إشراك أطراف في المعارضة، وقد نجح، إلى حد ما، في تجاوز أزمات سياسية كادت أن تجهض مكتسبات الثورة، وتدخل البلاد في الفوضى وعدم الاستقرار، كما حدث في بلدان مجاورة.

وعلى الرغم من مراجعة الحكومة السابقة مواقفها وبعض قراراتها في قضايا سياسية وأمنية، وتقديم تنازلات كبيرة، لم تتوقف المعارضة عن الضغط عليها، إلى أن تنازلت عن الشرعية الانتخابية، وتشكّلت حكومة كفاءات (تكنوقراط)، أشرفت على الاستحقاقات الانتخابية.

وبالفعل، بعد وضع أول دستور ديمقراطي والمصادقة عليه، تنازل الائتلاف الحاكم بقيادة حركة النهضة عن السلطة، وتشكلت حكومة كفاءات، سهرت على إدارة شؤون البلاد، بتنسيق مع رئاسة الجمهورية، والإشراف على تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية، إلى حين انتخاب حكومة جديدة.

وهكذا، جرت الانتخابات التشريعية في أجواء من "الشفافية والمصداقية"، بحسب شهادة بعثة المراقبين الأوروبيين، وعرفت نسبة مشاركة تجاوزت 60%، بحسب اللجنة العليا المستقلة للانتخابات، لكن المفاجأة الكبرى التي تمخضت عن هذا الاستحقاق، تراجع الأحزاب الثلاثة التي أدارت شؤون الحكم في المرحلة الانتقالية بعد الثورة، وإن حافظت "النهضة" على مقدمة الترتيب، بعد حصولها على الرتبة الثانية خلف حزب "نداء تونس"، فيما احتل حزبا المؤتمر والتكتل أسفل الترتيب، وهو ما كان متوقعاً بعد فشل "الترويكا" في الاستمرار في الحكومة، لعجزها عن معالجة ملفات ملحة.

وإذا كانت حركة النهضة قد اعترفت بالخسارة، وقدمت التهنئة للحزب الفائز، وأبدى بعض قادتها رضاهم عن النتائج النهائية للانتخابات، حيث عبّر زعيم الحركة، الشيخ راشد الغنوشي، في تجمع جماهيري، عن ابتهاجه بأجواء مرت فيها الانتخابات، والنتائج التي أسفرت عنها، ووصفها "بالعرس الديمقراطي"، وعلى الرغم من ذلك، لم يخْفِ قلقه من عودة الاستبداد في تصريح لاحق، خصوصاً بعد فوز حزب "نداء تونس" الذي يضم في عضويته أعضاء في حزب التجمع الدستوري الحاكم سابقاً في عهد بن علي، وتعهّد رئيسه، الباجي قائد السبسي، بإعادة هيبة الدولة والاستقرار إلى تونس، ما أثار قلق حتى أوساط سياسية وحقوقية اكتوت بنار الدولة البوليسية التي أقامها نظام بن علي.

وعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة قد أظهرت تراجعاً طفيفاً لحركة النهضة، مقارنة مع الحزبين اللذين تحالفا معها، لكنها لا تزال رقماً صعباً ووازناً في المعادلة السياسية، ولا أدلّ على ذلك من ظفرها بالمرتبة الثانية، على الرغم من الصعوبات والأزمات التي مرت بها في أثناء وجودها في السلطة، في فترة حرجة ودقيقة، وتعرضها لانتقادات وضغوط شديدة وحملات إعلامية منظمة من خصومها، حمّلتها المسؤولية عن الفشل في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تعاني منها البلاد.

لكن، تحلت قيادة النهضة بقدر كبير من المرونة والحكمة، جعلتها تتنازل عن السلطة في الوقت المناسب، من أجل إنقاذ البلاد من الوقوع في الفوضى أو الاستبداد، كما حصل في بعض البلدان العربية، وهذا الحرص على تغليب مصلحة الوطن على مصلحة الحزب، هو ما أكسبها تقدير التونسيين وتعاطفهم وحفظ لها قاعدتها الشعبية.

وإذا كان رئيس الحزب الفائز، الباجي السبسي، قد صرح أنه لن يحكم وحده، وأنه سيتحالف مع مَن يتقاطع مع حزبه فكرياً، وبأن حركة النهضة ليست عدواً وإنما حزب منافس، فمن المرجح أن لا يتحالف مع النهضة لتشكيل الحكومة المقبلة، وأنه سيتجه نحو الأحزاب الليبرالية، أو اليسارية، مثل حزب الاتحاد الوطني الحر والجبهة الشعبية، وإن يستبعد مراقبون ذلك لأسباب ذاتية.

ومن المؤكد أن "النهضة" بعد الانتخابات، في موقع قوة يسمح لها بالتفاوض على المشاركة في الحكومة المقبلة بشروط تتناسب ووزنها الانتخابي في مجلس الشعب (البرلمان)، وهي، من دون شك، استفادت من تجربتها السابقة في السلطة، لكن، سواء اختارت أو اضطرت (النهضة) للخروج إلى المعارضة، فإنها ستكون أقوى تنظيمياً وأكثر شعبية من السابق، خصوصاً أن الحكومة المقبلة تنتظرها تحديات صعبة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، ما سيجعلها مجبرة على القيام بإصلاحات قاسية على المستوىيين الاقتصادي والمالي، ما سينعكس سلباً على الأوضاع الاجتماعية للتونسيين، كما أنها مطالبة باتخاذ قرارات حازمة لتثبيت الأمن في البلاد، وهو ما قد يجرها إلى خرق الحريات والحقوق المكتسبة بعد الثورة.

وحسب ما أسفرت عنه الانتخابات التشريعية من نتائج لصالح حزب "نداء تونس"، فإنها مؤشر قوي يسعفنا على رصد مزاج الناخب التونسي، ورغبته في التغيير، ولذلك، يملك رئيس الحزب، الباجي السبسي، حظوظاً وافرة للفوز بالرئاسيات القادمة التي ستجري في 23 من الشهر الجاري، وخصوصاً أنه لا يوجد في الساحة السياسية منافس قوي له، وفي حالة فوزه بالرئاسة، سيصبح "نداء تونس" الحزب الحاكم والمهيمن على مؤسسات الدولة، ما قد يُخشى معه الاستفراد بالحكم والاتجاه نحو التسلّط في مواجهة معارضيه وخصومه السياسيين، وانتهاك الحقوق والحريات المدنية، والانقلاب على كل المكتسبات السياسية والحقوقية التي ضحى التونسيون من أجلها، وهذا السيناريو وما يحمله من مخاطر على استقرار وأمن تونس، قد يجرّها، لا قدّر الله، إلى استنساخ التجربة الانقلابية المصرية بكل مساوئها.

وفي ظل الانتكاسات التي عرفتها تجارب دول عربية مجاورة، من حق التونسيين القلق على تجربتهم الوليدة والواعدة، والتي قدموا من أجلها تضحيات جسام، في سبيل العيش في مجتمع العدالة والكرامة والحرية، وخصوصاً أنها تجربة انتقالية فتية، تسعى جهات كثيرة معادية لها داخلياً وخارجياً، لإفشالها، حتى لا تتحول إلى نموذج يحتذى، في ظل محيط إقليمي مضطرب، ومناخ دولي متقلّب.

ولأجل تبديد مخاوف التونسيين، بعد تصدّر حزبه الانتخابات الأخيرة، حاول الباجي السبسي نفي رغبة حزبه باحتكار السلطة وحده، وأنه حريص على إشراك جميع مكونات المجتمع السياسية والمدنية، ولكن، يبقى هذا التصريح مجرد إعلان للنيات، ولا يمكن التأكد من مدى صحته، والأيام المقبلة هي التي ستجيبنا عن السؤال الحاسم: أين سيأخذ السبسي تونس، هذا في حال فوزه، هل إلى برّ الأمان، أم سيختار طريق عبد الفتاح السيسي؟

CE7EB635-75EB-4416-B522-A8AA5BDBE4A0
CE7EB635-75EB-4416-B522-A8AA5BDBE4A0
فؤاد الفاتحي (المغرب)
فؤاد الفاتحي (المغرب)