30 أكتوبر 2024
هذيان إسرائيلي خارج الصندوق
بعد إعلان موت ما يُسمى "حل الدولتين" رسميًا، تُطرح في دولة الاحتلال الإسرائيلية تصورات عدّة لحلول أخرى للصراع الفلسطيني- الصهيوني، يُوصف بعضها بأنه خارج الصندوق. هنا اثنان منها:
طُرح التصور الأول على هامش مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب الأسبوع الفائت، وتقف في صلبه فكرةٌ خارجةٌ عن مألوف نموذج تقسيم البلد، مؤداها التخلي عما سمّاه صاحب التصوّر، وهو جنرال في الاحتياط، "نموذج الانفصال المناطقي الكامل في أراضي الضفة الغربية، والذي تبيّن أنه انفصال فاشل"، كما في حالة قطاع غزة.
برأي هذا الجنرال، من الصعب القيام بأي تقسيم للأرض الضيقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن بين دولتين، بالمعنى الكامل لمصطلح دولة، وذلك ليس فقط بسبب المشروع الاستيطاني الكولونياليّ في الضفة، بل أيضًا بسبب مجموعة الأوضاع المجتمعية والبيئية والثقافية والاقتصادية والبنى التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء. كما تكمن الصعوبة في البُعد الأمني لتقسيمٍ كهذا.
وهو يلفت إلى أن ما حدث منذ بداية اتفاقات أوسلو (1993) يقدّم على الأرض نموذجين للدرس: الأول في أراضي الضفة التي تمتاز بتقسيمها إلى مناطق أ وب وج، وبذا انتظمت في ما يعتبره نوعًا من التعايش بين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين، منطقة مُختلطة فيها تقاسم للسلطة. والثاني في قطاع غزة، وهو يُقدّم تقسيمًا ثنائيًا على أساس وجود جدار وحدود قاسية. وأوجد هذان النموذجان فارقًا كبيرًا في أسلوب العمليات الأمنية التي تقوم دولة الاحتلال بها بين قطاع غزة والضفة الغربية. يمثل نموذج غزة الانفصال المطلق، وهو يتطلب استخدام القوة العسكرية وموارد كثيرة: دبابات، طائرات حربية، وعمليات عسكرية بقوة كبيرة من وقت إلى آخر. ويستلزم أيضًا أموالًا طائلة لمحاربة الأنفاق الهجومية لفصائل المقاومة الفلسطينية. أمّا في نموذج الضفة، فيجري تنظيم الأمن من خلال توازن مناطقي هجين، مع صلاحيات حكمٍ أُعطيت للسلطة الفلسطينية في مناطق أ وب، ويبدو مفيدًا أكثر للطرفين.
يجري تداول التصوّر الثاني بين أوساط في اليمين الإسرائيلي، ويزعم أنه في الواقع القائم حاليًا، أقيمت دولتان ونصف دولة للفلسطينيين بين البحر والنهر، بموجب التعريف الذي يحدّد "الدولة" بأنها "منظمة تمتلك احتكار السيطرة على منطقة جغرافية معينة". وهي على النحو التالي: دولة غزة، حيث تحتكر حركة حماس السيطرة على القطاع؛ دولة "شرق الأردن" التي تعتبر دولة فلسطينية مطلقة، نظرًا إلى أن أغلبية سكانها من الفلسطينيين؛ نصف دولة في مناطق أ في الضفة الغربية، وهي تتسم بحكم جزئي لحركة فتح، لا باحتكار السيطرة. ويقول أصحاب هذا التصوّر إن ما أدّى إلى هذا الواقع غير مهم، والأكثر أهمية هو عدم التنكّر له لدى الحديث عن الحلول، إلى جانب دحض الزعم بشأن عدم قيام دولة فلسطينية.
إذا كانت هذه المقالة قد وصفت في عنوانها مثل هذه التصورات بأنها بمثابة هذيان خارج الصندوق، فإن ما يجري الحديث عنه داخل الصندوق منذ "أوسلو" ليس أقل دهاء. ففي كل الأحاديث والخطابات التي قدمها رئيس الحكومة الأسبق، يتسحاق رابين، حتى عام قتله، ظلّ يؤكد أن البناء في المستوطنات القائمة في الضفة لا يتناقض مع السعي إلى السلام والتسوية. ولدى تطرّقه إلى الكيان الفلسطيني الذي سوف يقوم بقي يشدّد على أنه "سيكون أقل من دولة". ويتحدث رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو الآن عن قيام دولة ناقصة كهذه منزوعة السلاح، تعترف بـ"دولة الشعب اليهودي"، مؤكدًا أن "ما نرغب فيه هو أن تكون الدولة اليهودية معترفًا بها ومحميّة"!
يعني هذا كله، وفق المنطق السليم، أنّ المؤسّسة السياسيّة الإسرائيليّة مستمرّة في تطبيق المدلول الحقيقيّ لـ "إرث أوسلو"، ولا سيّما تشديده على وجوب أن تكون أيّ تسوية للصراع مستندة أساسًا إلى تلبية "حاجات إسرائيل الأمنيّة" بموجب مفهومها هي، وفقط هي، لهذه الحاجات التي تُعتبر مطاطةً، لا نهاية محسوسة لها.
طُرح التصور الأول على هامش مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب الأسبوع الفائت، وتقف في صلبه فكرةٌ خارجةٌ عن مألوف نموذج تقسيم البلد، مؤداها التخلي عما سمّاه صاحب التصوّر، وهو جنرال في الاحتياط، "نموذج الانفصال المناطقي الكامل في أراضي الضفة الغربية، والذي تبيّن أنه انفصال فاشل"، كما في حالة قطاع غزة.
برأي هذا الجنرال، من الصعب القيام بأي تقسيم للأرض الضيقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن بين دولتين، بالمعنى الكامل لمصطلح دولة، وذلك ليس فقط بسبب المشروع الاستيطاني الكولونياليّ في الضفة، بل أيضًا بسبب مجموعة الأوضاع المجتمعية والبيئية والثقافية والاقتصادية والبنى التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء. كما تكمن الصعوبة في البُعد الأمني لتقسيمٍ كهذا.
وهو يلفت إلى أن ما حدث منذ بداية اتفاقات أوسلو (1993) يقدّم على الأرض نموذجين للدرس: الأول في أراضي الضفة التي تمتاز بتقسيمها إلى مناطق أ وب وج، وبذا انتظمت في ما يعتبره نوعًا من التعايش بين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين، منطقة مُختلطة فيها تقاسم للسلطة. والثاني في قطاع غزة، وهو يُقدّم تقسيمًا ثنائيًا على أساس وجود جدار وحدود قاسية. وأوجد هذان النموذجان فارقًا كبيرًا في أسلوب العمليات الأمنية التي تقوم دولة الاحتلال بها بين قطاع غزة والضفة الغربية. يمثل نموذج غزة الانفصال المطلق، وهو يتطلب استخدام القوة العسكرية وموارد كثيرة: دبابات، طائرات حربية، وعمليات عسكرية بقوة كبيرة من وقت إلى آخر. ويستلزم أيضًا أموالًا طائلة لمحاربة الأنفاق الهجومية لفصائل المقاومة الفلسطينية. أمّا في نموذج الضفة، فيجري تنظيم الأمن من خلال توازن مناطقي هجين، مع صلاحيات حكمٍ أُعطيت للسلطة الفلسطينية في مناطق أ وب، ويبدو مفيدًا أكثر للطرفين.
يجري تداول التصوّر الثاني بين أوساط في اليمين الإسرائيلي، ويزعم أنه في الواقع القائم حاليًا، أقيمت دولتان ونصف دولة للفلسطينيين بين البحر والنهر، بموجب التعريف الذي يحدّد "الدولة" بأنها "منظمة تمتلك احتكار السيطرة على منطقة جغرافية معينة". وهي على النحو التالي: دولة غزة، حيث تحتكر حركة حماس السيطرة على القطاع؛ دولة "شرق الأردن" التي تعتبر دولة فلسطينية مطلقة، نظرًا إلى أن أغلبية سكانها من الفلسطينيين؛ نصف دولة في مناطق أ في الضفة الغربية، وهي تتسم بحكم جزئي لحركة فتح، لا باحتكار السيطرة. ويقول أصحاب هذا التصوّر إن ما أدّى إلى هذا الواقع غير مهم، والأكثر أهمية هو عدم التنكّر له لدى الحديث عن الحلول، إلى جانب دحض الزعم بشأن عدم قيام دولة فلسطينية.
إذا كانت هذه المقالة قد وصفت في عنوانها مثل هذه التصورات بأنها بمثابة هذيان خارج الصندوق، فإن ما يجري الحديث عنه داخل الصندوق منذ "أوسلو" ليس أقل دهاء. ففي كل الأحاديث والخطابات التي قدمها رئيس الحكومة الأسبق، يتسحاق رابين، حتى عام قتله، ظلّ يؤكد أن البناء في المستوطنات القائمة في الضفة لا يتناقض مع السعي إلى السلام والتسوية. ولدى تطرّقه إلى الكيان الفلسطيني الذي سوف يقوم بقي يشدّد على أنه "سيكون أقل من دولة". ويتحدث رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو الآن عن قيام دولة ناقصة كهذه منزوعة السلاح، تعترف بـ"دولة الشعب اليهودي"، مؤكدًا أن "ما نرغب فيه هو أن تكون الدولة اليهودية معترفًا بها ومحميّة"!
يعني هذا كله، وفق المنطق السليم، أنّ المؤسّسة السياسيّة الإسرائيليّة مستمرّة في تطبيق المدلول الحقيقيّ لـ "إرث أوسلو"، ولا سيّما تشديده على وجوب أن تكون أيّ تسوية للصراع مستندة أساسًا إلى تلبية "حاجات إسرائيل الأمنيّة" بموجب مفهومها هي، وفقط هي، لهذه الحاجات التي تُعتبر مطاطةً، لا نهاية محسوسة لها.