ميشال أونفري: "الغريب" وأخلاق السعادة الكلبية

26 يونيو 2014
كامو في بورتريه لـ"كريجيه" / فرنسا
+ الخط -

ماذا تبقّى من ألبير كامو (1913-1960)؟ وماذا يريد ميشال أونفري من "الغريب"؟ ربما يكون كتاب أونفري "النظام الفوضوي، الحياة الفلسفية لألبير كامو" الصادر منذ فترة غير بعيدة عن دار "فلاماريون"؛ التقاءً لمسارين، وحياتين، وميتة واحدة، ظلّت أكثر عبثاً وعدمية من حياة وفكر صاحبها.

ميشال أونفري فيلسوف فرنسي، كتب أكثر من خمسين كتاباً، لا تزال تحقق أكبر المبيعات، وأنشأ الجامعة الشعبية لتعليم الفلسفة للجميع. في هذا الكتاب، يعود إلى كامو، حياته القصيرة، موته المفاجئ، الصّادم والعنيف، فلسفته في الحياة والموت، ومواقفه من الحرب، السلام، الشموليات، الثورة الجزائرية.

البوهيمية، أو حياة المتعة الفردية، بوصفها فكراً مقاوماً لكل الشموليات ومصادرات الجماعة، الإمتاعية بوصفها مقاومة للعدميات الارتكاسية التي يعجّ بها عصرنا، هي الدعوى الكبرى التي ظلّ أونفري يبشّر بها جحافل الشباب المتمرّد في أوروبا؛ وقد وجد في ديوجين، أبيقور، ونيتشه ركائز فلسفية لمشروعه، لكنه اكتشف مؤخّراً أن كامو قد خطّ بيانها المعاصر في نص "أعراس تيبازا".

نشدان المتعة الفردية، بالنسبة لكامو وأونفري، ليس اختزال الحياة الإنسانية إلى نظام الاستهلاك المقرف الذي أفرزته الرأسمالية، بل إضفاء جمالية عدمية على عدمية الحياة المعاصرة التي تعززها المؤسسات والأيديوجيات الحديثة. المتعة هي المعنى الوحيد المتبقّي لكينونة ينخرها العدم والعبث من كل جهة، وهي تأجيل يومي للانتحار الذي هو خلاصة كل حياة تأمّلية وفلسفية. ولهذا، بدلا من التفكير والتأمل وإنتاج المصطلحات الفلسفية الفضفاضة، يدعو كامو إلى السباحة في شواطئ تيبازة، والتمتّع بالبحر والشمس والأجساد البرونزية المتلألئة تحت أثير البحر المتوسّط. وفي هذا السياق يقول: "شمس تيبازا عندي أهمّ من كل فلاسفة أثينا".

إن ما يجعل كامو شخصية مفهومية لأونفري، ليس فقط كتاباته بل طريقة حياته، وطريقة تشخيصه ومقاومته له، فالشرّ نظام، وفقاً لكامو، يبدأ من رؤيتنا للعالم حين تعجز عن التبرّؤ من الشمولية، وينتهي في التحقق التاريخي لهذه الشمولية في أنظمته السياسية والمعرفية والفلسفية. اختار كامو الكتابة الروائية والمسرحية لبسط أفكاره في مقابل الكتابة الفلسفية الأكاديمية، ونحت التصوّرات الميتافيزيقية والأنطولوجية الفخمة التي تعجّ بها الفلسفة الجامعية في فرنسا وألمانيا. فالرواية كفنّ واسع الصدر تستطيع القبض على اللحظة الأنطولوجية وهي تنبض بالحياة، بعكس لغة التصوّرات والمفاهيم الفارغة.

يقيم كامو تعارضاً حاسماً بين حياة البحر والشمس والمتعة والحياة المتوسطية في انسراحها الجمالي واحتفاءها بالجسد وجمالية الحواس، وبين حياة المدن الأوروبية بصقيعها وغيمها وتعقيداتها المفهومية. التعارض بين تيبازا وباريس هو تعارض بين منظومتين أنطولوجيتين: منظومة ميتافيزيقية، أكاديمية، دينية/مسيحية إمبريالية أنتجت الشموليات والحروب للبشرية، ومنظومة بوهيمية، فردية، فوضوية، هامشية، غارقة في الوفاء للأرض والبحر والشّمس ورائحة الورود، وهي منظومة محرّرة.

يعود أونفري إلى شخصية "الغريب" المدهشة، في رواية كامو الشهيرة، ويقررّ أنها التجسيد العدمي للإنسان الأعلى الذي بشّر به الفيلسوف نيتشه. يتحلّى الغريب (ميرسو) بشخصية نافذة ومحيّرة، فضيلته اللامبالاة إزاء مباهج الفضول البشري، الصمت، الوفاء لمُتع اللحظة الراهنة، الإجابة على قدر السؤال، رباطة الجأش ونبذ الانسياق وراء أفراح الجماعة وأحزانها. شخصية الغريب تبشير بأخلاق كلبية للسعادة. حين يصل ميرسو خبر فاة والدته، يحضر الى بيتها مثلما يحضر الجميع، ويشيّع جنازتها في صمت مثل الآخرين، لكنه لا ينتحب ولا يبدي أية مشاعر تليق بالحدث. فهو لا يعتبر الموت فاجعة وإنما اكتمال طبيعي للحياة. وغداة الدفن يذهب إلى الشاطئ مع صديقته للتمتع بالشّمس والسباحة والحب. وحين يتورّط في قتل العربي دفاعاً عن نفسه، يواجه القاضي بكل هدوء وكلبيّة، كأن الأمر لا يخصّه. يعيش في السّجن بشكل عادي، ويقبل حكم الإعدام بكل أريحية. وحين يحضر المرشد الديني الى الزنزانة يرفض الخلاص الذي تعرضه الأديان، ثمّ يضطرّ لدحض كل الأطروحات اللاهوتية حول الموت في بيان عدمي متألق. وبالتالي، يستنتج أونفراي كل خطوط فلسفته من شخصية ميرسو ضمن ما يسمّيه خط "اليسارية النيتشوية".

بلغة بسيطة وزاهدة البيان، لا يتوقّف كامو عن نحت شخصيات مفهومية بديعة، والرواية عنده فن اختراع الشخصيات البديلة، وتقويض الشخصيات النمطية التي تشيعها الأنظمة الشمولية في المجتمعات. تعج الحداثة بهذه الأنظمة، ولهذا يراهن مبدع "السقطة" على الفن الروائي في المقاومة. رفض كامو الفاشية والنازية، وكذلك الشيوعية وكل أيديولوجيات الخلاص منذ أول وهلة، ولم ينسق إلى غوايتها كما فعلت الكثير من الفلسفات الأكاديمية. كل الشموليات ورثت ميتافيزيقا الخلاص من الدين الذي حاربته. الخلاص طريق فردي، لهذا رفض كامو الادعاء في الخلاص الجماعي. ومع ذلك لم يتنكّر صاحب "أسطورة سيزيف" للفقراء والمهمّشين والشعوب المستضعفة.

ينقضّ أونفري على كل كتابات كامو كمن يكتشف مخزون ذخيرة حية في عز حروبه. يخوض منذ عقدين سجالات فكرية وإعلامية ذائعة الصيت لصالح رؤية جديدة للعالم، قوامها الإلحاد أو "نفي اللاهوت"، والانتصار المتطرّف للفردية والتحرر من كل الميراث الميتافيزيقي الذي يكبّل الحياة الانسانية. عنوان كل فلسفته هو تحرير الجسد الإنساني من كل أنظمة الفكر المُصادرة له، وفضح الأبعاد الاستلابية للأنظمة الدينية والسياسية والميتافيزيقية. وقد وجد في الحياة الفلسفية لألبير كامو نموذجاً عن الإمكانية الجذرية لهذه اليوتوبيا السعيدة.

أخيراً، ثمةّ صمت مدوّي يحكم كل كتاب أونفري، وهو التعلّة الأيديولوجية لهذا العمل. فكتابه عن كامو جاء في حقيقته ردّاً جذرياً على النقد الشهير الذي أشهره إدوارد سعيد ضد المنظومة السردية لفيلسوف العدمية في كتاب "الثقافة والإمبريالية" (1993)، حيث قدّم سعيد تشخيصاً لاذعاً عن تبرير كامو للنظام الكولونيالي في الجزائر على مدى كل كتاباته السردية. والأكثر طرافة في كتاب أونفري أنه، طوال 600 صفحة، لا يذكر إدوارد سعيد ولا كتبه، ولو عن طريق السّهو والخطأ. يبدو أن إستراتيجية الصمت عنده أشدّ وطأة وأعظم هولاً من حروب الألفية التي لا يزال يخوضها.

* كاتب وأستاذ فلسفة من الجزائر 

دلالات
المساهمون