من يحرّر الشعوب؟

من يحرّر الشعوب؟

13 سبتمبر 2018
+ الخط -
من الغوطة الشرقية إلى خان شيخون، ومن درعا إلى إدلب، ومن فلسطين إلى فلسطين، تتبدّى سياسة النظام العالمي بزعامة أميركا في أكثر صورها فظاظة وقتامة، الصورة التي تعبّر، بدون مواربة أو تمويه، عن حقيقة النظام العالمي اليوم، وعن مدى قدرة مراكز القرار الأميركية على التحكّم بمساراته التي تنزلق بالعالم أجمع نحو هاويةٍ لا قرار لها.
ومن خطاب الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في جامعة القاهرة إلى إغلاق ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، مرورا بقرارات الرئيس الحالي، دونالد ترامب، منع مواطني عدة دول من المسلمين من الدخول إلى أميركا، وكذلك الرد الأميركي في عهد أوباما على مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق إلى رد ترامب على مجزرة الكيماوي في خان شيخون، مسار تحوُّل في التعبير عن السياسة نفسها، سياسة واحدة بوجوه وألسنة مختلفة، بحيث لا نرى تغيرا جوهريا في النتائج، إنما تغيّرا في شكل الخطاب وفي طريقة التعبير، وصولا إلى التخلي عن الديبلوماسية الناعمة والتحول إلى استخدام الأسلوب الفج الباعث على الإدهاش.
لم تعد السياسة الأميركية بحاجة إلى أقنعة، أما الشعارات التي تلطت وراءها خلال عقود في تحالفاتها، وفي حروبها، كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فباتت من الماضي، وهي تتخفّف اليوم من أثقالها، لتستبدل بشعار "أميركا أولا"، ومَن لهذه المهمة "التاريخية" مثل دونالد ترامب.
نعم، يبدو أن "السيستم" الذي يحكم أميركا ويقرّر سياساتها، بناء على ما تقتضيه مصالح قواه الاقتصادية والمالية، قد وجد في وضوح وفي صراحة التعبير الفج لدى ترامب، وفي الإثارة للدهشة التي ترافق قراراته الغريبة والبعيدة عن المنطق السائد أو الذي كان سائدا، ضالته ليتحرّر نهائيا من سياسة المواربة والتمويه على حقيقة مقاصده الخارجية والداخلية على حد سواء، فالسياسة الخارجية لأميركا كانت وما زالت تتحدّد بمصالح كارتيلات السلاح والنفط والمال، وهذا ما يعلنه اليوم ترامب على رؤوس الأشهاد، وهو بذلك يحرر السيستم الأميركي من سياسة المواربة والتمويه التي مارسها خلال عقود.
أما حياة الناس ومصائر الشعوب ومستقبل المجتمعات البشرية، فمن المستحيل أن تشغل أذهان القيمين على السياسات الكبرى في عالم اليوم، وفي مقدمتهم "السيستم" الأميركي. وهكذا تتحدّد علاقة الدولة الأميركية بمنظمات الإغاثة ومنها "أونروا"، فتقطع عنها حصتها من التمويل، وتتحدّد علاقتها مع الفلسطينيين، فتنقل سفارتها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وتغلق ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، فمن كان ليجرؤ على ذلك لولا وجود ترامب في البيت الأبيض؟
أما عن الثلاثة ملايين سوري الذين يعيشون اليوم في إدلب، فعليهم أن يموتوا، ولكن، ليس بالسلاح الكيميائي وحده يباد السوريون! وهكذا يأخذ نظام الأسد وحلفاؤه، بل أسياده في موسكو وطهران، الضوء الأخضر الأميركي لبدء حرب الإبادة على إدلب. وما يؤجل ذلك ليس التهديدات الأميركية الفارغة، بل محاولات ضم تركيا إلى محور الحرب على إدلب، أو في أضعف الاحتمالات، تحييدها.
قدّر كثيرون أن شبهات علاقة حملة دونالد ترامب الانتخابية بالمخابرات الروسية ستؤدي حتما إلى عزله من منصبه، وشهدت المدة المنصرمة من ولايته عدّة خضات رافقت محاكمات قادة تلك الحملة، حيث أقصي عدد منهم من مواقع المسؤولية، ولا زالت التحقيقات في عدّة أمور متعلقة بذلك، مستمرة. غير أنّه، وكما يبدو، فإنّ استمرار وجود ترامب في البيت الأبيض من عدمه لا تقرّره نتائج تلك التحقيقات والمحاكمات مهما كانت، طالما لا يزال وجوده هذا حاجة للسيستم المتحكم بسياسات الولايات المتحدة الأميركية، خارجيا وداخليا.
وليست القوى المسيطرة على "السيستم" الحاكم في أميركا وحدها من يتلطى خلف فجاجة ترامب وقراراته، بل إنّ دول العالم تستغل هذه اللغة، لتمرير سياساتها وتحقيق مصالحها على حساب الشعوب التي تتزايد عليها الضغوط وتتعرّض أكثر فأكثر للانسحاق.
وإذا كانت إدلب اليوم الساحة المفتوحة لدموية العصابة الأسدية، وللاحتلالين الروسي والإيراني، ليمارسوا ساديتهم على أبنائها وفي دمائهم، فقد سبقها إلى ذلك درعا والغوطة وغزة.. وقد يتبعها مناطق أخرى تتمرّد على جلاديها، لتواجه المصير نفسه، طالما لم تتوفر لدى النخب التي ما فتئت تضِيع في التفاصيل، الرؤية الموحِّدة الشاملة لحقيقة الصراعات الجارية، لتدفع باتجاه توحيد نضالات الشعوب التي يسحقها الاضطهاد، حيث يتوحد الجلادون على سحقها، وإن اختلفوا.
0D763D6C-2C1E-437C-ABF7-2556ECA33B30
0D763D6C-2C1E-437C-ABF7-2556ECA33B30
أحمد عثمان (لبنان)
أحمد عثمان (لبنان)