مقطع من حجر الورد

05 مايو 2014
محمد الحواجري / فلسطين
+ الخط -

وأخيراً رأيناهُ يتسكّعُ على الشاطيءِ، ويدخّنُ غليونَهُ التركيَّ، ويصفّرُ أسماءَ نساءٍ عرفهنَّ في وطنهِ الأصليِّ، وكلما لفظَ إسماً حلّقَ الإسمُ فصارَ فراشةً ذهبيةً تطيرُ تحتَ قمرٍ قديم، أو طائرة مـن ورقٍ ملونٍ تصيرُ طيــوراً من الذهبِ الأخضرِ، جداً تلمعُ بحدّةٍ في الوعيِ. قلنا ساخرين: هذا هو جيمس جويس طنجة! وعما قريبٍ سنرى مجلداتٍ عن اليقظةِ، مجلداتٍ متفككةٍ عن تجربةٍ مفككةٍ، وفعلاً في تلك السنة، في شباكهِ المضيء على الحافةِ، كنا نرى كتباً تزيدُ وتنقص حسبَ زمنِ المدِّ والجزرِ، وحوله، على مسافة ميلين، عجائزٌ بأسنانٍ من البلاستيك، وبعصي للمعاقينَ لا تُستخدمُ أبداً. بعضنا كان يلعبُ الشطرنجَ ليوحي بأنه يختارُ خطواته، وبعضنا نسيَ ما تعلّمهُ عن الشعرِ والموسيقى والفلك، وبعضنا كان يحلمُ بتحويلِ الضاحية إلى دولة، تحويل الشبابيك إلى شاشاتٍ تلفزيونية.

وعادةً ـ قبل أن يأتي ـ ما كنتُ أتسكعُ في باحةِ قصرنا، تحت أضواءِ النيون، حول عامودٍ مرصعٍ بالصدفِ الأحمرِ، وبأحرفٍ صينيةٍ، وأحرفٍ كوفيةٍ، تعلوه قرنفلةٌ من حجرٍ كيد من عطرٍ قديمٍ، كنت منهوشاً، ويسكنني الهاجسُ الغامضُ، وكان ذا قبل أكفَّ عن النزولِ إلى الباحةِ، حين انقرض المكانُ وتوحّشَ، وطاردتني المساحةُ، فلجأتُ إلى الجلوسِ إلى الشباكِ ومراقبةِ البحر، ووجهي مطرّزٌ بتوقعاتٍ غامضةٍ، وبأغنياتٍ شعبيةٍ. كان البحرُ يهدرُ كآياتٍ مكتوبةٍ بالماءِ في الماءِ لتقرأَها ربّةُ القمر، وروحي بحرٌ آخر، سبحانه من مرجَ البحرين، بينهما برزخٌ فهما لا يلتقيان! ولذا لجأتُ إلى الشباكِ ـ البرزخ بين البحريــن: بين التكرارِ الأبديّْ والحاجةِ للخلقِ، بين مدِّ الروحِ وجزرِ البحرِ، بين وجهي وبين قرنفلةٍ من حجرٍ هي وجهي الآخر.

جاءتني أمي في الحلمِ قبيلَ الصبحِ تجرُّ عربةً محمّلةً بالوردِ النديِّ ومشاعر ذنبٍ، عجلاتها إيقاعُ قلبٍ يخسرُ. قلت لها: علميني السفرَ بين الحلمِ واليقظةِ، بين القلبِ والفكرةِ، بين الداخلِ والخارجِ، يا مربّيتي على الجلسةِ بين الشبابيكِ! فاختفتْ. ناديتُ عليها: بيني وبين ما أعرفُهُ، بين ما أعرفُهُ وما أفهمُهُ، وبينَ ما أفهمُهُ وما أشعرُ به، والعالمُ لوحةٌ باهتةٌ معلّقةٌ على جدرانِ الوعيِ، إرفعيني نحو أمومةٍ أخرى!

كان تمثالٌ لنمرٍ من حجرٍ منحوتٍ في وسطِ نافورةٍ في باحةِ القصرِ، تحت الشباكِ مباشرةً، وكان رأسَهُ الحجريّ مرفوعاً للقمرِ، عليه تهيلُ زخاتُ الماءِ، وبدا لي متجمداً في وثبتِهِ، مشلولاً كإرادةٍ نصف منجزةْ، منقوشة في الصخرِ، إرفعيني نحو إرادةٍ أخرى، يا سيدةَ النحتِ!
فكلما بحتُ بكلمةٍ، أدخلُ في حلمٍ يشبهُ الدَّوَار، فأكتبُ شعراً في الحلمِ على رملِ البحرِ، يذكرني به موج آخر لما أخرج من حلمي إلى حلمٍ آخر، موجٌ يشبه الدوار. وسنةً بعد سنةٍ، والحلمُ يتكرّرُ، والقمرُ يتكرّرُ، والأطفالُ يولدونَ بدونِ أدمغةٍ، وأنا ـ الجيلُ الأخيرُ في الضاحيةِ ـ كنتُ على وشكِ الإنقراضْ.

وعندها أتى، يتسكّعُ على الشاطيءِ، ويدخّنُ غليونَهُ التركيَّ، يسراهُ في جيبهِ وينظرُ للبحرِ، فنزلتُ إليه، خطوةً خطوةً، بحذرٍ، وسألتهُ بسخرية: منا وُلِدَتْ التراجيديا وإليكَ يتّجهُ الرقصُ، ماذا تقرأ؟ قال "كتابي نفسي". فعثرتُ على حجرِ الوردْ..



* مقطع من نص طويل بالاسم نفسه

دلالات
المساهمون