مسؤولية الصحافة عربياً في التراجع الثقافي

مسؤولية الصحافة عربياً في التراجع الثقافي

20 نوفمبر 2014
السلطة راضية عن تردي الوضع الثقافي (Getty)
+ الخط -

في الحديث عن دور الصحافة والإعلام، ودورهما المباشر في تشكيل اتجاهات الرأي في المجتمع، والإسهام في صياغة الوعي الجمعي، يمكن الرجوع إلى شهر يوليو/تموز 1988، نموذجًا مناسبًا لتعدد الحوادث الاجتماعية والثقافية وكذلك السياسية، حيث إن حدثًا مصريًا خالصًا بعيدًا، كان الأبرز، حتى وإن كانت المنافسة مع مهاجمة أميركا طائرة مدنيين إيرانيين، وهو أن تسجل أغنية لمطرب جديد على الساحة، مبيعات بلغت ستة ملايين نسخة كاسيت، وتتحول بعد هذا التاريخ بخمس سنوات تقريبًا لفيلم سينمائي - لاستثمار نجاح الأغنية - من إخراج حسن الصيفي.

الأغنية هي "لولاكي" للمطرب الحديث وقتها وباحث الماجستير في الموسيقى البدوية "علي حميدة"، وكما يقول حميدة في إحدى اللقاءات التليفزيونية التي أجريت معه في أوائل التسعينيات، إنه لم يتفهم سر هجوم وسائل الإعلام على الأغنية، مبررًا عدم تقبل الجديد دومًا، ورافعًا شعارا ردده كثيرون من بعده "إعجاب الجمهور وإقباله هو النجاح وليس إشادة النقاد".


الإعلام والتنميط الثقافي

تفاوتت مواقف وسائل الإعلام من "لولاكي"، التي نتخذها بمثابة النموذج التحليليي هنا، من الهجوم الصريح في وسائل الإعلام التليفزيونية أو التجاهل في الصحف، فتعرض حميدة وهو الفتى القادم من محافظة مطروح شمال غرب مصر، إلى انتقادات لاذعة بسبب عمله، تجاهل أدى لعدم ظهور إعلانات الأغنية أو الفيلم في صحف الخريطة الصحافية أو تعرضها للنقد أو التحليل سوى تلميح في إحدى المرات بجريدة الوفد اليومي في عدد 12 يوليو/تموز 1988 على لسان محمد قابيل، قائلًا: "إن الكاسيت تجارة سيئة السمعة".

لعل الهجوم تارة، والتجاهل تارة أخرى، كانا وسيلتين جيدتين ليجعلا من "لولاكي" نمطا سائدًا وهو الأكثر مبيعًا، ولعل هذه العبارة ليست فرضية لم تتعرض للاختبار والإثبات، ففي دراسة للباحث خالد صلاح الدين عام 2001 وعنوانها "دور التليفزيون والصحف في تشكيل معلومات واتجاهات الجمهور نحو القضايا الخارجية"، والتي تضمنت عينتها، تحليل نشرة التاسعة على القناة الأولى المصرية ومضمون صحف الأهرام والوفد والشعب والأهالي لمدة 42 يومًا، وعينة بشرية قوامها 400 مبحوث، وخلص الباحث إلى وجود ارتباط بين ترتيب أولويات القضايا في وسائل الإعلام وترتيبها بين المبحوثين، والنتيجة الأهم هي أن وسائل الإعلام تمارس تأثيرًا ذا دلالة في تشكيل اتجاهات المبحوثين نحو القضايا الخارجية.

وكذلك خلص جمال عبد العظيم في دراسته "المتغيرات المؤثرة على دور الصحافة في تكوين الرأي العام في مصر" إلى أن هدف الصحيفة من تبني قضايا معينة يحكم اختيارها لهذه القضية، وأن نمط الملكية يؤثر بشكل قوي في طبيعة ما تتوجه إليه.


التنشئة الاجتماعية

لا يقتصر الأمر على تحكم الصحافة في النمط الثقافي السائد، وترسيخ واحد وإهمال آخر، إنما يمتد ليشمل الغرس الثقافي، وهو ما يمكن أن تفعله وسائل الإعلام الحالية بالمستقبل، فتقول أماني عمر حافظ في دراسة بعنوان "أثر مشاهدة الأطفال للدراما على تنشئتهم الاجتماعية 2001" ، وقد اختارت مجموعة من المسلسلات التي أذيعت على التليفزيون المصري في الفترة من يناير/كانون الثاني 2001 حتى مارس/آذار من نفس العام، أن معدل تعرض الأطفال لدراما الكبار يؤثر على قيام الأطفال بتقليد الشخصيات التي تتضمنها الدراما، وكذلك تعارض النصائح التي يتلقاها الأطفال من الأهل مع ما يشاهدونه في الدراما العربية في أغلب الوقت.

وهو ما يعني أن الصحافة بدلًا من أن تكون مصفاة للأفكار فتطرحها للنقاش دون تجاهل أو هجوم يدفع المتلقي للسير في اتجاه الفكر المهاجم، تكون أداة لترويج فكر لا يراد تحققه ولو ظاهريًا.


عن التراجع

أما الناقدة ماجدة خير الله، فتقول لـ "جيل"، أنه في الخمسينيات "كانت الصحافة تصنع النجوم وترعى المواهب، فصعود جيل عبد الحليم وبليغ حمدي والموجي، لم يكن إلا نتيجة لوعي الصحافة في اكتشافهم ودعمهم ، لكن دورها تراجع كثيرا في السنوات الثلاثين الأخيرة، بحيث اكتفت بالأخبار، وأهملت دورها الأساسي، أي تحليل الخبر".

وترى خير الله، أن "تراجع دور الصحافة في المجال الثقافي العام ناتج في الأساس عن انعدام كفاءة الصحافيين المتخصصين، بحيث أصبحت الثقافة والفنون مآلا لمحدودي الموهبة باعتبارها مجالات "لايت"، تلي الصحافة الرياضية".


السلطة والثقافة

في حين أن السلطة راضية عن تردي الوضع الثقافي، بل استخدمت الصحافة في تثبيت الوضع الكارثي، وإلهاء الناس بهوامش الأمور على حساب قضاياهم الأساسية.

كما في حالة "لولاكي"، فقد تأخرت الصحافة في إدراك اللون الغنائي الجديد، وعندما تنبهت ضخمت في الظاهرة، فانهار علي حميدة الذي لم يستطع تحمل كل هذ الاهتمام الإعلامي، وحتى الآن لم يتم دراسة سبب صعود ظاهرة "لولاكي" أو هبوطها.


لولاكي الآن

الأغنية النموذج الآن يتناولها المهتمون بإرضاء الـ "نوستالجيا" لديهم عبر وسائل الإعلام، أو الذين لم يعرفوا كيف كانت الثمانينيات، فيقيسون على المطرب وزيه ما كان في مجتمع منذ 25 عامًا تقريبًا.

المساهمون