لا جثمان لجمال أبو حمدان

21 ابريل 2015

جمال أبو حمدان ... طوبى لك، ستظلّ كبيرنا

+ الخط -
من السخف أن يتحوّل جمال أبو حمدان إلى "جثمان". من السخف أن يخضع هذا الجسد لشروط الموت، بعد أن عاش متمرداً على شروط الحياة.
أما الأكثر سخفاً فأن يتنطّح وطنه للاحتفاء بجسده، بعد أن ضاق بروحه، كما يفعل مع مبدعيه الخارجين على "نصّه" المعدّ سلفاً في مطبخ الوجبة الواحدة.
عاشرته، ولا أقول زاملته، بضعة أشهر، في يومية "آخر خبر"، بعد أن كنت سابقاً قد عاشرت ملائكة نصوصه التي كانت تعرج بي إلى خفّة الأرض السابعة، أو تهبط بي إلى السماء الثامنة، وتتركني معلّقاً هناك، أصنع فردوسي الخاص الذي لا يدخله إلا المذنبون بإدمان الحرية، والمشركون بعبادة أصنام الجمال.
لم يشر إليه أحد، ولم يذكر اسمه أحد، غير أني عرفته مباشرة، حين رأيته أول مرة، قلت في نفسي هذا جمال أبو حمدان، ولا أدري إن كان ما حدث بعد ذلك قد حدث حقاً، إذ سمعت همسات ملائكية تؤمّن على حدسي، وأعترف أنها إحدى المرات النادرة التي يتطابق فيها النص وصاحبه، ولا ينسحب ذلك التطابق إلا على محمود درويش وبدر شاكر السياب وطاهر رياض، وفق رأيي.
كان منسحباً إلى كهوف روحه، محلّقاً على غيمة حرّة، لا يصدر صوته الهادئ من شفتيه، بل من رفّة وردةٍ أتعبتها فراشة نيسان، وكان نحيلاً من شدة الزهد الأرضي، طافحاً بكأس الشفافية، قابلاً للتحليق في أي لحظة يشاء، غير أن ما كان يبقيه على الأرض رغبته بمقارعة الظلم، وربما كان ذلك مدعاة اختياره المحاماة مهنة له. وأذكر مرة أنه أبدى إعجابه بمقالة كتبتها عن محكمة الجنايات الكبرى في عمان، والتي صعقتني حين رأيتها ذات فضول أخرق، فاستغربت صغر حجمها قياساً إلى لقبها "الكبرى"، وتساءلت كيف تصدر أحكام الإعدام في هذه المغارة التي تكاد لا تتسع لغير القاضي وحده، ورحت أشكك رجعياً بكل الأحكام الصادرة عن تلك المغارة الموحشة.
أكثر ما كان يثير فضولي حيال جمال أبو حمدان غيابه وظهوره المباغتان، فهو لم يكن موظفاً لأنه يمقت القيود، بل كان داعماً مجانياً لصديقه ناشر الصحيفة، يعمل من دون أجر، حتى لا يخضع يوماً لأي رب عمل، ولو كان صديقه الحميم. وحين تعزّزت علاقتنا، أدركت أنه لا يمكن إلا أن يكون هكذا، مزاجيّ الحضور والغياب، يخطفه منّا النصّ المعذّب بفكرته ليكتمل به، ويعيده إلينا مستنزفاً مجهد العينين والقلب.
على ذلك، لم أعجب حين اختار المنفى الطوعي بغتة أيضاً، فكان غيابه طويلاً هذه المرة، أفضى بدوره إلى غياب أخير، لكونه، على الأرجح، لم يعد يتآلف مع وطن يكرّم أنبياءه بالتجاهل والجحود، فيما تحتفل المنافي برسالتهم الإبداعية أيّما احتفال، بدليل أن نصوص أبو حمدان تدرس في مدارس أميركية، فيما تصطدم نصوصه في وطنه بالأشباح وحدهم.
ليسمح لي جمال أبو حمدان، مرة واحدة فقط، أن لا أعترف بحضوره، بعد أن غاب الوطن كله عن الحضور، وأدعوه أن لا يفتش عن "مسقط الرأس"، لعلّه ينجو برأسه الحرّ حياً وميتاً، وبنصّه حيّاً وحيّاً.
أدعوه أن يبجّل المنفى الذي رباه، وليس الوطن الذي أنجبه، لأن ثمة فرقاً شاسعاً بين من يلد ومن يربي.. بين "مسقط الرأس" و"شموخ الرأس".
واصل ارتفاعك الحر هناك، لا سقوطك المشروط هنا، يا أبا حمدان، ولا تمنح الطاغية العربي فرصة استقبال جثمانك في المطارات ورفعه كخصم مهزوم، فأنت من يرفع الوطن كله بنصٍّ واحد، ومن يعاقبه على مؤخرته، حين يفشل بحفظ درس الحرية، بنص واحد أيضاً.
جمال أبو حمدان، طوبى لك، ستظلّ كبيرنا الذي علّمنا كيف ننحت الماء ليزهر الصخر.


EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.