كن فاضلا كاذباً ولا تكن سينمائيا صادقا

31 مايو 2015
+ الخط -
في انتقاد فيلم نبيل عيوش "الزين اللي فيك"؛ علينا أن نحدد ماذا ننتقد بالضبط؛ فليس أي كلام يرقى إلى مستوى النقد الفني السينمائي، ولو كان مضمضة لفظية من فقيه، بفم مر؛ يتحدث في كل شيء ولا يقول شيئا، لأنه يختبئ خلف نصوصٍ، يراها خارج الزمن الأرضي، ولا يبدع فصوصاً فكرية، تفكك الواقع لتشق منه سبلاً غير مطروقة. 
إذا أهدرنا دم هذا الفن الناشئ عندنا الذي يفترض فيه أنه يشتغل، بسمو أو إسفاف، على خلخلة البنيات الاجتماعية القائمة، لترقيتها صوب الأفضل، كما يتحدد في مشروعنا المجتمعي الذي نريده حداثيا؛ فسنكون قد وقعنا في الابتذال إياه الذي يعاب على الشريط.
هذا إذا كان الكلام، المباح للجميع، يتأسس على مشاهدة العمل الفني كاملا؛ أو على الأقل بعض مداخله الأساسية؛ أما إذا كان السند في الانتقاد مجرد سماع من هنا وهناك، فسنكون قد ساهمنا في إثراء موسوعة السفه التي تواظب المجتمعات المتخلفة على إنتاجها، مادامت لا تقوى على غيرها.
ما سُرب من الشريط، غالبا عن سبق إصرار وترصد، يندرج ضمن توظيف آليات سيكولوجية تسويقية، تعرف كيف تضرب على الأوتار الحساسة للمتلقي، لتستدرجه إلى قضيتها، أو خطابها، ولو رافضا غاضبا. إن الاستدراج إلى شِباك الخطاب يكون أحياناً أهم من شُبَّاك التذاكر.
أحيل هنا، مثالاً، على رواية آيات شيطانية لسلمان رشدي؛ وهي بإجماع النقاد عمل فاشل أدبياً. لتسويق مثل هذه الأعمال، خصوصا الحاملة لخطاب يخدم أهدافا سياسية استراتيجية لبعض الدول، يحتاج الأمر إلى حبكة روائية أخرى تسند الكاتب. هذه الحبكة هي التي رسَّمت سلمان رشدي روائيا عالمياً، تحت حماية التاج البريطاني؛ يُقرأ بأزيد من ثلاثين لغة.
حبكة تدرجت صُعدا إلى أن بلغت الذروة بصدور فتوى الإمام الخميني التي أهدرت دم الكاتب. الأمثلة الأخرى لا تعوز هنا، ولا أقرب من "شارلي إيبدو"، الصحيفة المغمورة التي كابدت الإفلاس واقعاً، لولا أن ضربت، بدورها، على أوتار حساسة، ضمن الجهاز العصبي الإسلامي المتوتر أصلا، رفعتها إلى مستوى الرمز العالمي للتضحية، من أجل الحرية بالمفهوم الغربي؛إضافة إلى أبواب الثراء التي فتحت في وجهها.
شاهدت، كغيري، هذا القليل الذي سرّب، فوجدته يشتط لفظاً سافلاً، لكن بكل مصداقية، في مقاربة الإيروتيكية المغربية الحرام التي اكتسحت، لأسباب ذاتية وموضوعية، أغلب مساحات الحلال الديني المجتمعي، الزوجي، الأسري والفني، حتى سحبت منه كل شيء، ولم يعد موضوعا، لا للفن السينمائي ولا الموسيقي الغنائي.
صاحبة "اعطني صاكي"، مثلا، لم تكن تتزين لزوج أو خطيب، ولكن لتَعْبُر، في كامل زينتها، إلى مساحة الحرام الديني التي اختار عيوش أن يشتغل عليها، بصفتها هذه؛ من دون أي خطاب وعظي ضمني أو صريح.
لعل ذكاء المخرج يتجلى هنا بالضبط؛ فهو لم يشغل نفسه بهذا الخطاب الوعظي المثالي الذي يعرف مسبقاً أن المجتمع متخم به؛ وسيقحمه في كل تفاصيل الفيلم، حتى يغطي (المجتمع) سوءته، بكل النصوص المزمجرة والمتوعدة، وبكل ستائر المثالية التي لم تعد تصلح إلا للزينة، خصوصا في مدن تسوق نفسها للسائح الأجنبي، من دون أن تلزمه بأخلاق محددة.
لم يرتق المتلقي العادي، بعد، إلى مستوى النقد السينمائي المتخصص، ولا حتى إلى مجرد النقد الموضوعي المؤسس الذي يقصي كل المتغيرات والمؤثرات ليركز على الخطاب، كما يبلوره النص المعتمد، وكما تفعله الكاميرا، وكما يتفاعل معه الممثل؛ أولاً ثم الجمهور ثانياً. هذا يعرفه عيوش، وغيره من المخرجين المغاربة، ويعرفون، في الوقت نفسه، أن البديل النقدي السهل، وهو يمتح من الدين ومخرجاته القيمية، منتصباً لإغراق كل عمل يقع ضمن خريطة الحرام؛ ليس بالضرورة انتصارا للحلال، والالتزام والإلزام به، بل جلداً لهذه الذات المنقادة، طبعا وتطبعا، لإغراء الحرام.
كأن الحوار المفترض بين المخرج والجمهور تم بهذه الكيفية: سأكشف عن سوءاتكم، وأنتم تعلمون أن ورق الجنة ليس في متناولكم لتستروا ما انفضح؛ أما أنتم، فأنتظر منكم أن تمتشقوا نصوصكم وقيمكم، لتواصلوا التمثيل، حينما يسكت الممثلون المنحرفون حد الشبق. بهذا، ينفتح الشريط ليلجه الجمهور، مكملا نواقصه الحقيقية أو المتعمدة. جمهور ينكر الدعارة الداعرة، من دون أن ينفي المساهمة في إنتاجها إلا كاذبا.
من المخطئ ومن المصيب؟ أصاب عيوش، لأنه صور ما لا مغربي ينكره؛ وأصاب الجمهور الغاضب، أيضا، لأنه يتحدث بما لا أحد ينكره. المخطئ من يبحث في ثوب السينمائي المبدع، ولو قارئا للقبح، عن فقيهٍ يردد النصوص، من دون أن تتجاوز حنجرته. كن فقيها كاذبا ولا تكن سينمائيا صادقا.
لعل الشريط، وهو لم يعرض بعد؛ ومنع من دون أن يعرف المواطنون ظروف إنتاجه، والأسباب الحقيقية لمنعه، حقق مالم تحققه أشرطة مشابهة، عرضت كاملة، مراراً وتكرارا. هذه سابقة في السينما المغربية، وهي أهم من الجائزة التي لم يرق إليها.
لو لم تتحرك الآلة الاشهارية التي اختارت، هنا، أن تستفز النصوص، وأن تنتج منعا خارج المساطر المعمول بها، ربما لتشنق من تحمل وزر المنع، قبل الشريط، لما انتبه أحد إلى عرضه في دور سينمائية مهجورة أصلا.
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)