كان يسمع فقط

13 مارس 2016
رمسيس يونان / مصر
+ الخط -

دون أن يحرّك رأسه، أدار عينيه ناحية اليمين، لوحة كبيرة مضيئة كانت هناك، ربما هي نافذة، قال لنفسه. لكن لم يستطع الجزم في الأمر، لأنه لم يكن يعرف المكان مطلقاً. ما كان يتذكره، هو أنهم أدخلوه إلى هناك قبل يوم فقط وبصره لم يسعفه في اكتشاف الغرفة. كان يسمع فقط.

لم يعد يرى منذ سنوات. شيئاً فشيئاً بدأ يفقد بصره ومنذ كان يافعاً أنذره الطبيب أن حالة صحية غريبة ستقوده تدريجيا نحو العمى. رغم ذلك، كان سمعه يعمل بشكل ممتاز وكان يتذكر أصواتاً بعيدة في الزمن. كان يزعم إنه عند ولادته قد سمع صوت الممرضات اللائي كن يعتنين به يقلن وهن يضحكن:"أُوفْفْفْ، ما أقبح هذا الرضيع!"، لكن هذه الذكرى يمكن أن تكون مجرد اختراع من بنات أفكاره. على أي حال، لا أحد كان يصدقه عندما كان يرويها.

كان في الغرفة مرضى آخرون، يرقدون بسلام، وكان يسمع بين الحين والآخر أنيناً وآهات خفيفة. وكان هناك أيضاً من يهذي. هو، في كل الأحوال، لم يكن يعرف لأي سبب كان هناك، على الأرجح بسبب وعكة صغيرة أو بسبب فوبيا غير مفهومة من ابنته لا محالة. الآن يجب عليه أن ينتظر عائلته لتأخذه، هي بالطبع لن تتركه يغادر وحيداً دون رفيق.

فجأة، شعر بثقل يسقط على سريره واعتقد إنه هكذا كانت توقظه قطته في كل صباح. "مِيسْهُو.. مِيسْهُو"، تمتم وعينيه تتقلصان بينما كان يحاول العثور على ظله. مع ذلك، لم يقدر على رؤية أي شيء وفي الحين تذكر أن قطته قد ماتت منذ ثلاث سنوات.

- مساء الخير- قال صوت بهدوء، يبدو أن شخصاً ما قد جلس لتوه فوق سريره. في تلك اللحظة نفسها، صوت آخر، أجاب منزعجاً بشكل واضح:
هَآهْ، أخيراً وصلت؟ ولا مرة واحدة أتيت في موعدك على مدى شهر كامل!

من كان يتكلم؟ كيف تجرأ هذا الغريب على الجلوس فوق سريري؟ أليس هناك مكان آخر؟ حاول الاعتراض، ولكن لا صوت خرج من فمه.

-كيف حالك؟ -سأل الصوت الأول.

- وكيف سأكون؟ - أجاب الصوت الثاني، الذي بدا له أقل إزعاجاً.

-ألا ترى أنه يموت؟

من خلال المحادثة فهم أن المريض الراقد على السرير المجاور منذ شهر وهو يتعذب صار قاب فوسين أو أدنى من الموت.

-هل سيتحمل أكثر؟ ماذا يقول الأطباء؟ -سمعهم يسألون من جديد بقلق، تطلّع في الآخر منتظراً جوابه. ربما لم يكن يعرف المريض، ولكن في أعماقه كان إنساناً أيضاً.

-بين عشية وضحاها، يقولون-قال الصوت الحتمي.

-هو لا يعرف أن هذه الأمور لا تقال فوق رأس رجل يحتضر؟ -انضم صوت ثالث إلى المحادثة،

- يمكنه سماعكم.

صمت الثلاثة، لكن بالنسبة لذلك الذي كان يعتقد أن ما كان يقوله كان مجرد احتمال وفكر في تلك اللحظة أن يعطيهم رأيه: بأنه من المحتمل لم يعد يسمع شيئاً، وأن يواصلوا حديثهم حتى يشعر بمؤانستهم له. لكن صوت آخر لم يخرج من فمه.

يعد هنيهة، اقترب آخرون إلى هناك، سمع تحيّات مهموسة، والبعض منهم يبكي، وصوت أنثوي صرخ في ذهول:

-كيف انتهى هكذا، المسكين!، هذا قبيح، رضيع قبيح! –خرجت من فمه بشكل تلقائي، يبدو أن شمعة جاره كانت تنطفئ في ارتجاف.

كانت عيناه مثقلتين بالنوم، لكنه لم يشأ الاستسلام بعد. أراد أن يبقى مستيقظاً، وأن يشارك في محادثاتهم، وأن يعرف بقلق أخبار الموت الوشيك لجاره، حينذاك كان يشعر بالألم.

فجأة، تذكر يوم زفاف شقيقته، في تلك الليلة، من الحجرة المجاورة، كان يسترق السمع لوالده بخفية وهو يهذي في المنام مكرراً مرّات ومرّات اسم ابنته: "ماريا، ماريا"، وأمه بجواره تبكي وتشهق وهو يسمع. يبدو أنه في الليلة نفسها، على الأقل للذي كان يسمعها كانت تلك لحظة بداية سوء الحظ، كصخرة تدحرجت ووقفت فوق صدر الأم، ثقلها مستحيل رفعه وأبت التزحزح.

بعد فترة وجيزة، اكتشف الأطباء المرض الخبيث، فأعدوا لها علاجا كميائيا، كل شيء تغير بشكل طبيعي في حظه العاثر. وذات مساء حينما، قبل بضع دقائق من أن تغيب نهائيا، استعادت الحواس – يحدث هذا غالبا قبل النهاية، وبدأت تبحث عنه بإصرار، هو كان غائباً، اتصلوا به عبر الهاتف، رفع السماعة وسمع نَفَسَها الأخير فقط، زفرة واحدة وبعد ذلك لا شيء.

لم يتصور قط من قبل أن اتصالاً هاتفياً سيجعل منه تعيساً، أن رسالته ستنكّد عليه حياته كلياً بندم لا يطاق لعدم وجوده هناك عندما كانت تبحث عنه، ولأنه سمع فقط زهقة روحها، ولم يسمع منها ولا كلمة واحدة، ولا نفساً واحداً، ولا تنهداً واحداً، على الأقل. نعم، مثل حشرجة موت من كان في جواره، لنقل، هكذا كانت. وبعد وقت قصير، فقد بصره.

الآن صار ضائعاً في محيط من أحداث حياته، كان فمه ممتلئاً بالماء، كان يغرق.

-أكسيجين- سمع صراخاً قريباً منه. خدر حلو التف حول أعضائه، ثم استعاد قوته. افتكر جاره الذي كان يحتضر، ويطلب الهواء ليتنفس الأكسجين، ولكن في جو المدينة المسموم التي كان يعيش فيها لم يكن يصله منه ما يكفيه. سمع خطوات تهرول في الممرات المخنوقة، وأسماء أطباء، وعجلات تدور، واحتكاك الملابس، فتخيّل قطعة قماش رداء طبي أبيض منتفخاً فوق رأسه، والقارب يتجه نحو البحر.

كانت هناك أيضاً رائحة مياه مستنقعات، كالتي نجدها في الموانئ، تعزز شعور من يتتبع رحيلاً، وسمع صفارات السفن، وتخيّل المسافرين مثقلين بالأمتعة يتدفقون من الحظائر إلى البوابات من أجل العثور على مكان على سطح السفينة. وفجأة تذكر "إِلْ صُولْ نَرَانْخَا" التي كانت تحملهم كل صيف إلى جزر سبيتسيس...

أداروا ظهره. سمع نباحاً خلف النافذة. هكذا هو الموت. تخيل ذلك نصف خاملً: غروب، وهدوء مستقر باستثناء طائر ليلي، يلمع ويحوم بعيداً فوق البحر، طائر مهيب وغامض في الوقت نفسه: "إل صول نرانخا" فغر فاه في دهشة بسبب ما اكتشفه للتو. أحس بجسمه مرة أخرى خدران، وساخناً، لقد عرق. ربما حان وقت الراحة؟ كان على أعتاب النوم.

تطلع من على الجدار المنخفض، حتى أنه لم يفكر في الأمر كثيراً، تسلقه وقفز إلى الداخل. كانت أصماغ الراتنج تتسرب من شقوق أشجار الصنوبر، وكان يسمع حبوب الصنوبر تتكسر من الحرارة، ولكنه لم يتوقف أبداً. شيء ما كان يدفعه نحو البحر.

لأول مرة يرى الماء بهذه الشفافية والهدوء. رفع سرواله إلى الركبة، نزع حذاءه، ودخل بلا حذر. أعجبه الأمر، ثم على عجلة من أمره بدأ يخلع قميصه وبحركة واحدة رمى به إلى الشاطئ. من مكان بعيد وصلت أصوات تصرخ اسمه. لم يتذكر أنه كان برفقة أحد، لم يعرها اهتمامه: كل ما كان يريده هو أن يسبح، لوحده فقط.

بدا كأنهم هم أيضاً فهموا رغبته. سمعهم يبتعدون شيئاً فشيئاً، حتى ما عاد بقربه أي ضجيج ما عدا موج المياه العذب. كما لو أن بقية العالم قد اختفى... نزل بجسمه كله، ثم برأسه، وحضنه البحر بعطف، وأفق الأرخبيل بدا له مفتوحا أكثر من أي وقت مضى.

لم يزعجه حتى عدم سماعه جلبة الماء.

* Dimitris Angelis شاعر وكاتب يوناني من مواليد أثينا عام 1973

** ترجمة عن الإسبانية: محسن بن دعموش

اقرأ أيضاً: بطاقة بريدية

دلالات
المساهمون