في أبعاد القضية الفلسطينية والمراجعة المطلوبة
حتى العام 1948، لم تكن قد اكتملت بعد لدى الفلسطينيين عملية تبلور وعي وطني واضح، فاستمر الحس الديني والمناطقي والعشائري في الغلبة جماهيرياً على حساب الحس الوطني. لا متصرفية القدس (1871)، ولا مبدأ نهضة فلسطين (1914)، ولا مؤتمر حيفا (1920)، ولا الصحف والاتحادات والنقابات التي حملت اسم فلسطين، كانت كافية بعد، لكي يتجذر هذا الوعي خارج دائرة النخب الفلسطينية.
مع ذلك، لعبت العاطفة القومية التي ترافقت مع إرهاصات القومية العربية، دور المحرك الأبرز لنضال الفلسطينيين ضد سياسات الانتداب البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني، لكن التناقض بين الوطني والقومي بدأ يتجلى في خشية التوجهات القومية العربية المبكرة من قيام كيان سياسي بهوية فلسطينيةٍ، يعيق طموحاتها في وحدة الأراضي العربية، بصيغها المختلفة التي طرحت منذ بدايات القرن العشرين، وكانت فلسطين حاضرة فيها جغرافياً. أعلنت هذه الخشية عن نفسها في مواقف عديدة، لاسيما في المؤتمر العربي الأول 1913، حين مُنع العضو الفلسطيني الوحيد في المؤتمر، عوني عبد الهادي، من إلقاء كلمته ممثلاً لفلسطين التي كانت تسمى في حينه: "سوريا الجنوبية".
ولم تكن فلسطين عرضةً للأطماع الاستعمارية الغربية والاستيطانية الصهيونية فقط، بل كانت، أيضاً، عرضة لأطماع النخب العربية الحاكمة، أو الطامحة إلى الحكم، وصراعها على النفوذ. نتيجة ذلك، منعت تلك النخب قيام أي كيان سياسي فلسطيني في ما تبقى من أراض فلسطينية بعد حرب 1948، لتبقى خاضعة للسلطتين الأردنية والمصرية.
انطلاقاً من المخيمات الفلسطينية، وعلى الرغم من افتقاد فلسطينيي الشتات عوامل الأرض والمجتمع والاقتصاد، استطاعت ذاكرة جيل النكبة الإسهام في بلورة هوية فلسطينية والحفاظ عليها، وبدأ الوعي الوطني الفلسطيني يتبلور داخل الوعي القومي، متناسباً طرداً مع عمليات عزلٍ فرضتها الدول العربية على اللاجئ الفلسطيني، وعدم رغبتها في دمجه اجتماعياً وسياسياً. وساعد على ذلك تشكل مجال سوسيولوجي خاص باللاجئين الفلسطينيين، استطاع أن يعبر عن نفسه، حين تمكنت شخصيات فلسطينية، على رأسها أحمد الشقيري، من انتزاع موافقةٍ عربيةٍ، مترددةٍ وخجولةٍ، على تشكيل كيان سياسي فلسطيني، تمثل في منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964، والتي مثلت التجسيد المؤسساتي للهوية الوطنية الفلسطينية. في 1974، حظيت المنظمة باعتراف الدول العربية بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وبدا ذلك، في حينه، محاولة عربية للتخفف من أعباء القضية الفلسطينية، لكن ذلك لم يمنع أنظمةً عربيةً عديدة من الاستمرار في محاولات الهيمنة على الورقة الفلسطينية، واستغلالها في السياستين، الداخلية والخارجية.
بعد فشل حركة التحرر العربية التي تمثلت في المشروع القومي الناصري، إثر هزيمة العام 1967، كان على الفلسطينيين استلام زمام المبادرة على طريق تقرير مصيرهم، فتشكلت فلسطينياً حالة من الرفض للأيديولوجيا العربية الرسمية التي طالبت الفلسطيني بالانتظار، ريثما تحرر الجيوش العربية النظامية فلسطين نيابة عنه، فحدثت النقلة على مستوى الشعار من "الوحدة طريق التحرير" ليصبح "التحرير طريق الوحدة"، وحظي الكفاح المسلح المنطلق من الشتات بالإجماع الوطني الفلسطيني، عبر عقود، ليكون أكثر الأساليب فعالية في تحريك الشتات، ومنحه الوحدة والتماسك، وبالتالي، الحراك السياسي المطلوب، مساهماً لذلك في تعزيز الهوية الوطنية.
لم يكن الكفاح المسلح عامل صدام مع إسرائيل فقط، بل، أيضاً، مع أنظمةٍ عربية، ليفصح التناقض بين الوطني والقومي عن نفسه، هذه المرة، تناقضاً بين منطقي الثورة والدولة، الأمر الذي مارس دوره في هزيمة قوات الثورة الفلسطينية في الأردن، ثم في لبنان.
منذ الستينات، بدأت القضية الفلسطينية تكتسب بعداً عالمثالثياً. يابانيون وإيرلنديون وأميركيون جنوبيون ويساريون غيرهم، انخرطوا في الثورة الفلسطينية، وتحولت رموز فلسطينية، كالكوفية، إلى أيقونات ثورية عالمثالثية. لكن هذه النزعة العالمثالثية أضافت إلى تناقضات القضية الفلسطينية، في بعديها الوطني والقومي، عبئاً إضافياً، زجّها في سياسة المحاور والصراع الدولي بين المعسكرين، الشيوعي والرأسمالي. وكان من الطبيعي مع انهزام الأول أن تخسر القضية الفلسطينية الكثير، لاسيما مداها العالمثالثي نفسه، وتراجعها إلى حدودها الإقليمية.
بعد استبعادها من مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في 1991، نتيجة موقفها من حرب الخليج الثانية، وجدت قيادة منظمة التحرير نفسها مضطرةً لاستعادة زمام المبادرة في مفاوضاتٍ سرية مع الجانب الإسرائيلي، تمخض عنها اتفاق إعلان المبادئ "اتفاق أوسلو" 1993، والذي مثّل نقطة تحول جيوبوليتيكية في الصراع مع إسرائيل، وكان المفروض أن توفر عملية "أوسلو" فرصةً لحل تناقضات عديدة للقضية الفلسطينية، منها التناقض بين بعديها الوطني والقومي، مع توفر فرصة للفلسطينيين لإدارة شؤونهم، باعتمادٍ أكبر على أنفسهم، وتوفر ما افتقدوا له منذ عقود، أي عوامل الأرض والمجتمع والاقتصاد. لكن الذهنية الفصائلية تركت الباب واسعاً أمام القيادات الفلسطينية، لإهدار جهودها في بناء السلطة، وتكريسها والصراع عليها، بدلاً من توجيهها إلى بناء مجال سوسيولوجي فلسطيني، انطلاقاً من عملية مأسسة شاملة، يكون قادراً على تقنين نضال الشعب الفلسطيني، وتوفير خيارات ووسائل نضالية متعددة. وعجزت الفصائل الفلسطينية عن الاتفاق على استراتيجيةٍ نضاليةٍ موحدةٍ، تربط بين الداخل والشتات وفلسطينيي العام 1948. أما إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة، فهي إما أنها لم تلتزم بكثير من بنود "أوسلو"، وحاولت التنصل من اتفاقيات عديدة ملحقة به، أو أنها حاولت نسف الاتفاق برمته، ساعدتها في ذلك غلبة موازين القوى على الحقوق المشروعة، تلك الموازين التي سارت لصالحها نتيجة ضعف الجانب الفلسطيني الذي لم يستطع استحضار عوامل القوة اللازمة لحرف "أوسلو" عن مساره المجحف.
عجز البعد الوطني للقضية الفلسطينية عن تحقيق الإنجاز المطلوب، وبقي منفعلاً بالبعدين العربي والإقليمي، أكثر من قدرته على الفعل. أما البعد العربي المثقل بالمشكلات الاجتماعية، السياسية والاقتصادية والتنموية، فربما أثقل كاهل القضية الفلسطينية بالقدر الذي كانت هي بدورها عبئاً عليه. أما البعدان، العالمثالثي أمس، والإقليمي اليوم، فقد زجّا بالقضية الفلسطينية في سياسة المحاور والصراع على النفوذ الذي خسرت فيه القضية الفلسطينية الكثير، فلم يزدد بهما الوطني إلا انقساماً وتشرذماً.
لم تقرب الأبعاد الأربعة المذكورة الفلسطينيين من تحقيق أهدافهم. وأمام حالة الانسداد التاريخي هذه، كان يفترض توسيع الأفق أمام القضية الفلسطينية، بمنحها بعداً خامساً ينقلها إلى المستوى الكوني، عبر إبراز أبعادها الإنسانية، حقوقياً وقانونياً من خلال منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها، لكن القيادة الفلسطينية تردّدت طويلاً حيال هذه الخطوة، لصالح الحفاظ على استمرار مفاوضاتٍ تحولت مع حكومة بنيامين نتنياهو إلى تفاوض على استئناف المفاوضات. ولم تتعلم هذه القيادة من دروس الماضي: أنه في كل حالة انسداد سياسي كان على إسرائيل أن تخوض حرباً في مكانٍ ما. أما سياسة المحاور الإقليمية، فقد بدت أشد وضوحاً في هذه الحرب الإسرائيلية على غزة، فأسهمت تجاذباتها، إلى جانب "الدونكيشوتية" الحمساوية، في عرقلة المساعي الهادفة إلى وقف العدوان، وإلى إطالة أمد الحرب، ما أدى إلى مزيد من الأوضاع الإنسانية الكارثية في القطاع، المنهك أساساً جراء الحصار المفروض عليه منذ سنوات.
تراجع إسرائيل حربها علمياً، إحصائياً وبحثياً، والرأي العام فيها يحاسب الحكومة على حجم المسافة الفاصلة بين أهداف الحرب ونتائجها. فلسطينياً، يعود الفلسطينيون إلى التفرغ إلى انقسامهم الداخلي والاتهامات السياسية المتبادلة، في تغييب شبه تام للرأي العام الفلسطيني، المتروك في حيرةٍ من أمره، محاولا تضميد جراحه التي لم تلتئم بعد، ويتوجب عليه، في الوقت نفسه، أن يفرح بنصر مزعوم، تحت رايات فصائلية، يُراد تعميمه نموذجاً يتعدّى قطاع غزة إلى الضفة الغربية! وإذا كان ليس من المعيب أن نُقدّر ما لدى العدو من أشياء إيجابية، فإنه من المعيب ألا نقدر على انتقاد الأشياء السلبية في مواقفنا، فلابد من مراجعةٍ فلسطينيةٍ لأحداث غزة الأخيرة، توضع في إطار المراجعة الشاملة لتاريخ النضال الفلسطيني، وإن كان عليها البدء من مراجعة مفهوميةٍ لدلالات النصر والهزيمة، وبنائها على معايير علمية، بعيداً عن دغدغة العواطف والتشبيح السياسي الجماهيري، الذي لا يعدو أن يكون عائقاً أمام امتلاك مقياس دقيق لموازين الربح والخسارة.
أما التشدق بالحقوق والثوابت الوطنية، واعتبارها حقوقاً مطلقة، يمثلها طرف بعينه، فهو إمعان في إقصاء الشعب الفلسطيني عن حقه في المشاركة في تقرير مصيره. وقد تنبه عبد الله العروي مبكراً إلى أن ميزة العمل النضالي الفلسطيني تكمن في أنه ينبني على أن الحق، الأدبي والفلسفي، يحل، من حين إلى حين، في ذوات عابرة، وهو ليس موجوداً إلا بإبداعه في كل آونة بالعمل الإنساني المتواصل، وهذا العمل اليومي لا يجسد حقوقاً قديمة، بقدر ما يولد حقوقاً جديدة.
لم تعد القضية الفلسطينية، اليوم، تحتل سلّم الأولويات، لا رسمياً ولا حتى شعبياً، عربياً وإقليمياً، لاسيما في هذه المرحلة الحساسة، المفعمة بفوضى تعم المنطقة. وبات لزاماً على الفلسطينيين أن يدركوا ضرورة النأي بقضيتهم عمّا أضر بها، حتى الآن، عبر مزيد من الجهود، لفك الاشتباك السياسي مع شبكات المصالح المتصارعة، إذ لم يعد بالإمكان الرهان على منتصرٍ في صراعٍ، بدأ يستنزف المنطقة برمتها. إن إبراز البعد الوطني، ومنحه الاستقلالية النسبية المطلوبة، من خلال الإسراع في ترتيب البيت الفلسطيني، مؤسساتياً وديموقراطياً، لتفعيل طاقات الشعب الفلسطيني وقواه الذاتية، ليكون قادراً على الفعل، فيمسك زمام المبادرة السياسية، من خلال برنامج نضالي سياسي جامع، وتعزيز ذلك ببعد دولي حقوقي وإنساني، بات خياراً فلسطينياً وجودياً، قبل أن تنتهي عملية إعادة ترتيب أوراق المنطقة، بطريقة تستمر فيها القضية الفلسطينية في لعب دور الخاسر الأكبر.