فيديريكو كوريينتي ورافائيل فالنسيا... تلويحة عربية أخيرة

27 يونيو 2020
(فيديريكو كوريينتي)
+ الخط -

غادر عالمَنا مؤخّراً اثنان من أبرز أسماء الاستعراب الإسباني: رافائيل فالنسيا (بيرلانغا - باداخوث، 1952)، وفيديريكو كوريينتي (غرناطة، 1940)، اللذان حاولا على مدى عقود من حياتهما العلمية والأكاديمية مدّ جسور تفاهُم وتواصُل بين الثقافة العربية والثقافات الغربية، شأن أسماء أخرى مثل: إيميليو غارسيا غوميث، وبيدرو مارتينيث مونتابيث، وكارمن رويث برافو بياسانتي، وماريا خيسوس فيغيرا، وخيما مارتن مونيوث، وخوان بيرنيت، وفديريكو أربوس، وبيرنابي لوبيث غارسيا، وسيرافين فانخول، وخوليو كورتيس، وفرناندو دي أغريدا، إضافةً إلى جيل جديد من المستعربين الإسبان.

رحل رافائيل فالنسيا Rafael Valencia في الثاني عشر من الشهر الجاري إثر نوبة قلبية أُصيب بها في الشارع، مباشرةً بعد مغادرته مقرّ "الأكاديمية الملكية الإشبيلية للآداب" التي انتُخب مديراً لها منذ 2008، ليُنقَل إلى المستشفى ويفارق الحياة عن ثمانية وستّين عاماً.

خلال مساره الأكاديمي، حصل غارسيا على شهادة جامعية في الدراسات العربية والإسلامية من "جامعة برشلونة المركزية"، ودكتوراه من "جامعة الكومبلوتينسي" في مدريد عن أطروحة بعنوان "الوسط الطبيعي والإنساني لإشبيلية العربية"؛ حيث عمل مدرّساً للعديد من المساقات المرتبطة باللغة العربية؛ مثل: تاريخ الأندلس، وتاريخ الإسلام، والأدب الأندلسي في "جامعة إشبيلية". كما درّس خارج إسبانيا في جامعات بغداد وبوينوس أيريس ودكار، وعمل أيضاً مديراً لـ "المعهد الإسباني العربي للثقافة" ببغداد (يُسمّى حالياً معهد ثيربانتيس) بين 1979 و1982.

رافائيل فالنسياتتمحور كلّ أعماله حول موضوع المعرفة في الإرث الأندلسي العميق لإشبيلية العربية، وقد كتَب ضمن هذا المجال عشرات الأبحاث والمقالات في التاريخ والعمران والآداب واللغة والنحو، واستحقّ عليها جائزة مدينة إشبيلية للبحث العلمي سنة 1986، إلى جانب عمله منسّق وحدة إشبيلية للبحث الأكاديمي" بالجامعة الإشبيلية، ومنسّق دراسات العصور الوسطى والعالم العربي في لجنة تحرير الموسوعة الكبرى لمنطقة أندلسيا (مالقة 2004 - 2007) والموسوعة الكبرى لإشبيلية (مالقة 2009).

وبعد أيام من رحيل فالنسيا، فقدت مدينة سرقسطة في السادس عشر من الشهر الجاري فيديريكو كوريينتي Federico Corriente، عضو "الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية"، والذي يَعدّه البعض معلّم اللغة العربية الأول للإسبان؛ الأداة التي تُمكّنهم من التعرّف على مكوّن أساسي من هويتهم وتاريخهم، وهو أمر طبيعي، خاصّةً إذا علمنا أنه من أبناء غرناطة، عاصمة بني نصر، وهو من الذين قادهم إحساسهم بانتمائهم إلى هذا الإرث الكبير في مدينته إلى التخصُّص في الدراسات العربية.

اختار كوريينتي أن يكون جسراً يربط بين راهن إسبانيا وتاريخها العربي الإسلامي، ما يعكسه بشكل واضح خطابه أثناء تنصيبه عضواً في "الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية" قبل سنتين، مسجّلاً بذلك عودة الاستعراب إلى هذه الأكاديمية التي شغل فيها المقعد "K". وقد عنون خطابه بـ "بحث في العبارات القشتالية المقتبسة من العربية في المدوّنات العادية والفلكلورية والسفلية"، ودافع فيه بقوّة عن موقف مبدئي يتمثّل في ضرورة خلق شروط لحوار حقيقي مع الشرق، متّهماً الغرب بالتعامل مع الشرق كعدوّ، ومع قضايا شعوبه المصيرية بشكل فيه كثير من الاستهتار والاستفزاز.

أصدر كوريينتي عدّة كُتبٍ عن اللغة العربية وآدابها ومظاهر حضارتها؛ من بينها: "النحو العربي"، و"العربية الأندلسية واللغات الرومانسية"، و"مقدّمة في قواعد النحو المقارن للغات السامية الجنوبية"، و"الشعر العامي بالعربية وقصائد الرومانس بالأندلس"، و"قاموس العربية الأندلسية"، و"قاموس الألفاظ القشتالية ذات الأصول العربية"، كما جمع أشعار ابن قزمان، وألّف قواميس مزدوجة اللغة: "عربي - إسباني"، و"إسباني - عربي"، وهذا الأخير طوّره بشكل عميق مع توالي طبعاته.

على مدى عقود، درّس كوريينتي في جامعتَي "الكومبلوتينسي" و"سرقسطة"، مثلما درّس في "جامعة محمد الخامس" بالرباط و"جامعة دروبسي" بفيلادلفيا، وعاش لسنوات في مصر والمغرب حيث التقى بأبرز المثقّفين العرب، كما لعددٍ من الكتّاب العرب. وتُعتَبر كُتبه في تعليم اللغة العربية جسراً للإسبان لبناء علاقة ودية معها، بل ولاختيارها أحيانا مجالاً للتخصُّص والبحث الأكاديميَّين.

متحدّثةً عنه بعد رحيله، كتبت المؤرّخة والمستعربة الإسبانية بيرخينيا لوكي، عضو "الجمعية الإسبانية للدراسات العربية" قائلةً: "في التسعينيات، لما شرعنا في دراسة العربية عبر التعلُّم الذاتي، الشيء الوحيد الذي كان في متناولنا في المكتبات هو نسخة خضراء من كتاب النحو مع شريط كاسيت... ولم يكن أقلَّ أهميةً منه في قيمته المعجمية والاشتقاقية 'قاموس الألفاظ القشتالية ذات الأصول العربية' و'العربية الأندلسية واللغات الرومانسية' اللذان لم يكونا يتضمّنان كلمات عربية في اللغة القشتالية فقط، بل أيضاً في لغات رومانسية أُخرى مثل الجليقية والبرتغالية والكتلانية والأراغونية".

برحيل رفائيل فالينسيا وفديريكو كوريينتي، فقدت العربية عاشقَين لها ومدافعَين عنها وعن ثقافتها، وعارفَين بتاريخها وأسرارها، يستحقّان أن نردّ لهما تحيةَ المحبة بأجمل منها، ونحن نعلم أنهما خلال مسيرتها الخصبة بذرا من شتولٍ ستجني اللغةُ والثقافة العربيّيتان غلالها حتماً.

المساهمون