عبد العزيز المنصوري: العائد على "نَفَس بالكاد"

01 يناير 2017
"تكوين" لـ الجيلالي الغرباوي
+ الخط -

من يذكر الشاعر الراحل عبد العزيز المنصوري (1940-2001) ضمن مجموعة مجلة "أنفاس" اليسارية في المغرب؟ لا أحد تقريباً. الاسم الوحيد الذي يعرفه الجميع مرتبطاً بمجلة "أنفاس" هو الشاعر عبد اللطيف اللعبي، غير أن مجلة "أنفاس"، التي أسسها اللعبي رفقة الشاعر مصطفى النيسابوري ومحمد خيرالدين وآخرين، أعطت أسماء هامة -إلى جانب هؤلاء- في فضاء الأدب المغربي الحديث المكتوب بالفرنسية من أمثال عبد الكبير الخطيبي، ومحمد الواكيرة، وعبدالعزيز المنصوري وغيرهم.

يأتي صدور الأعمال الكاملة للشاعر، "نَفَس بالكاد" (منشورات مكتبة "الفاصلة"، طنجة 2016)، بمبادرة من الشاعر مصطفى النيسابوري و"مؤسسة عبداللطيف اللعبي" لردّ الاعتبار لإحدى القامات المنسية في الشعر المغربي المعاصر.

فمن هو عبد العزيز المنصوري؟ يقول مصطفى النيسابوري في مقدّمته لهذه الأعمال: "تعرّفت على عبد العزيز المنصوري سنة 1966 بمناسبة إسهامه الأول في مجلة "أنفاس". وجدت أمامي شاباً لطيفاً بشوشاً دون ادعاء، يتحدث بصوت هادئ، ويستمع بانتباه شديد لما يقوله الأعضاء الآخرون للمجلة". كانت هذه اللقاءات تتم في مقر المجلة بالرباط. وكان عبد العزيز المنصوري يشتغل بإحدى الإدارات العمومية بالعاصمة ويسكن رفقة أسرته بمدينة سلا المجاورة.

تميزت مساهمات الشاعر الأولى في المجلة بنصوص نثرية مكثفة نظراً لاهتمامه القوي بالقصة القصيرة حيث نشرت له آنذاك إحدى المجلات الفرنسية قصة متميزة بعنوان "انتحار طائر نادر". ومن ثمت تعمقت تجربته في الكتابة واندمجت في الطابع الطليعي الأدبي والتجريبي الذي ميّز مجلة "أنفاس" آنذاك.

رحلة المشرق

دفعت التحولات التي عرفتها المنطقة ولا سيما أحداث القضية الفلسطينية وحرب 1967 المثقفين العرب ومجموعة مجلة "أنفاس" إلى إعادة طرح أسئلة التحرّر ونقد الثقافة الاستعمارية المهيمنة.

وفي هذا السياق، ركب الشاعر عبد العزيز المنصوري مغامرة الهجرة إلى ليبيا سنة 1969. أخذ سيارة نقل جماعي من الرباط إلى طرابلس تاركاً الوظيفة العمومية وراءه. اشتغل لعدة أشهر في طرابلس وبعدها رحل إلى بيروت وتعرّف هناك على مجموعة مجلة "مواقف".

وبعد أن نسيه أصدقاؤه، عاد دون سابق إنذار إلى الرباط وربط الاتصال مجدداً بمجلة "أنفاس"، لكنه لم ينشر فيها شيئاً، بل انخرط في العمل الجمعوي المحلي. يتابع النيسابوري في مقدمته: "زرته في صبيحة خلال تلك المرحلة، لكن لا أخفي أنني وجدته مكفهراً قليلاً ومتذمراً ويعطي انطباعاً أن التجربة التي تركها وراءه تركته دون حوافز أو أوهام. كان مشغولاً بتجفيف وترتيب بعض اللوحات في باحة البيت العائلي الواسعة".

عبد العزيز المنصوري، كان رساماً أيضاً حيث سيطوّر هذه الملكة عندما سيلتحق بمحترف الفنون الغرافيكية الذي افتتحه الفنان التشكيلي محمد شبعة.

يجب انتظار صدور مجلة "أنتكرال" المستقلة سنة 1971، ليعاود عبد العزيز المنصوري نشر قصائده. "وكانت القصيدة الأولى التي نشرها في هذه المجلة المتمحورة أساساً حول الإبداع الأدبي والتشكيلي، هي "كتاب الصحراء"، قصيدة طويلة يائسة". تلت هذه القصائد قصائد أخرى سكنتها لمعات رحلاته المشرقية إلى ليبيا ولبنان.

وتميزت مرحلة مجلة أنتكرال بالمساهمة الرفيعة لعبد العزيز المنصوري في مجال الترجمة، حيث نقل إلى الفرنسية الشعر العربي الذي اكتشفه في بيروت رفقة أصدقائه في مجلة "مواقف". وهكذا ترجم شعراء مواقف ومقتطفات من كتاب "المواقف" للنفّري. كما نشر في أنتكرال مقاطع من مجموعته "كتاب الماء" الذي ضاعت أغلب قصائدها.

المغرب في قلب العاصفة

عرف المغرب في بداية السبعينات حملة شرسة لإخراس أصوات اليسار الذي كان ينتمي إليه غالبية المثقفين. ألقي القبض سنة 1972 على الرسام محمد شبعة بتهمة "المسّ بأمن الدولة" فأغلق محترف الفنون الغرافيكية الذي كان يشتغل فيه عبد العزيز المنصوري. فعاد الشاعر إلى مدينة سلا عند أسرته، ثمّ عاد لاحقاً ليستقر بمدينة الدار البيضاء ويشتغل في إحدى مؤسسات الإشهار (الإعلان) المعروفة. توقف عن النشر وانشغل بمجال الإشهار وصار مرجعاً في الميدان. ثقافة الفرجة وإشهار الزيت والصابون والمربى أبعداه تماماً عن النشر. وتعود لهذه المرحلة تجربة مجموعته " كتاب الماء".

في الثمانينات، منعت كل المجلات الثقافية المستقلة أو توقفت عن الصدور. وفي سنة 1991، سيغيّر عبد العزيز المنصوري عمله ويتزوج للمرة الثانية. هل عاد الشاعر للكتابة؟ لا ندري. "لم يذكر لي ذلك حينها، إذ عاد عبد العزيز المنصوري للكتابة في منتصف التسعينات. هذا ما علمته لاحقاً من زوجته"، يكتب الشاعر مصطفى النيسابوري. كتب عبد العزيز المنصوري "كتاب الماء"، ومجموعة سمّاها "زيليشا"، نصوص صغيرة بالطول، وهي عبارة عن كتابة مقطعية فلسفية وتأملية مكثفة وموزونة قطعت مع تجربته الشعرية في مجلة "أنفاس" و" كتاب الماء".

تفتح لنا المقدمة التي كتبها الشاعر مصطفى النيسابوري أبواب العوالم الشعرية المغايرة والمبهرة على مصراعيها. فنقرأ الأعمال الكاملة لعبد العزيز المنصوري التي تتكون من ثلاثة أقسام: "كتاب الماء"، و"قصائد متفرقة"، و"زيليشا" وتقع في 352 صفحة من القطع الكبير، كأننا نسمع سمفونية عظيمة بآلات عجيبة نسمعها لأول مرة.

ففي كتاب الماء، نجد الماء الأزرق، والأبيض، والثرثار والعمودي والجينيالوجي، الفقير، الغني، إلخ. إنه ديوان يبتكر متخيلاً جديداً لطبيعة الماء الحية والأسطورية. فثمة مثلاً الماء الأزرق، العمودي أو الذكر الأنثى. وبمجرد ما نفتح كتاب الماء، يجري...

تمكن عبد العزيز المنصوري في كتاب الماء من ابتكار جغرافية شعرية جديدة لم نقرأ مثلها في الشعر المغربي المكتوب باللغة الفرنسية. أما القسم الثاني المعنون بـ"قصائد متفرقة"، فيعود بنا إلى شعرية "مجلة أنفاس" و"أنتكرال" حيث كانت قصائد الشاعر بمثابة فراشات تحط على سقف عالم متفجر. عالم مغرب سنوات الجمر.

نجحت هذه القصائد المغايرة التي خرجت إلى النور أخيراً -في كتاب يحمل عنواناً دالاً على حياة صاحبها "نفس بالكاد"- في الكشف عن شاعرٍ خاص فضّل طيلة حياته ظلال الصمت. هذا الصمت الذي ما زال يلف شعراء أساسيين في مجلة "أنفاس" من أمثال مصطفى النيسابوري والراحل محمد خير الدين ومحمد الواكيرة، لأنهم ليسوا من أتباع الفرنكوفونية التي تأسست المجلة على مسافة وموقف نقدي منها.

دلالات
المساهمون