عائدون من الإخوان.. ذاهبون إلى العلمانية

28 ابريل 2016
(متظاهر في ميدان التحرير، تصوير: محمد عبد، 2011)
+ الخط -
عادة ما يقوم الناس عقب الخيبات السياسية الكبرى بـ"مراجعاتٍ فكرية" وبنقدٍ للتصورات والأفكار التي تبنوها في تلك المرحلة من حياتهم. وعادة ما نشهد تغيرات عديدة في مواقف الناس، فمن كان يتخذ بالأمس موقفاً فكرياً معيناً نراه اليوم في موقفٍ آخر، وربما نقيضه.

ربّما لا يمكن وصف هذا التغير بحسنٍ أو بقبيحٍ لذاته، وإنما بما يمثله هذا النقد من مراجعة للذات المفكّرة نفسها؛ فبأي عقلية وبأي نفسية وفي أي سياق تم تبني الأفكار السابقة وعلى أي أساس تم قبولها والدفاع عنها، وعلى أي أساس وتحت أي ظروف تمت مراجعتها، ووفق أي معايير تمت ممارسة هذا النقد وتبني الآراء الأخرى.

مع انتصار الثورة المضادة في مصر، وسقوط جماعة الإخوان المسلمين، بدأ البعض من أصحاب التوجهات "الإسلاموية" في ما سموه مراجعة أفكارهم القديمة، فبتنا نقرأ عناوين لمقالات من قبيل "أنا علماني.. ومؤمن" على منصة "ارفع صوتك"، والتي خُصصت لمثل هذا الخطاب، ظناً من القائمين عليها أن هذا الخطاب ونشر الثقافة "العلمانية" من شأنه الحدّ من ظاهرة العنف في عالمنا العربي باعتبار أن المشكل الديني هو سبب ما نعيشه من خرابٍ ودمار.

وكذلك كتب كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي أنهم اكتشفوا أن العلمانية ليست كما أخبرهم الأشرار من الإسلاميين، وأنه تم الضحك عليهم وعلى شبابٍ كثيرين، وأنهم اكتشفوا أن الإسلام والعلمانية صنوان لا يتعارضان، بل اعتبر بعضهم أن الإسلام الصحيح هو عين العلمانية؛ واصمين أي نقد يوجه للعلمانية على أنه من قبيل سوء الفهم وعدم المعرفة.

ربما ساهم كثير من الإسلاميين في تسطيح الجدل الديني-العلماني، وابتذال الكثير من المفاهيم. ولكن على الجانب الآخر، يقوم هؤلاء بنفس ما ينتقدونه من تسطيح. فما يحدث هو ليس ممارسة نقدية للأفكار والتصورات والذات المفكرة نفسها، والتي في ظني هي المشكل الرئيس، وإنما هو تغييرٌ للشكل الخارجي مع الإبقاء على طريقة التفكير القديمة وطريقة الفهم نفسها. فما تغير هو المظهر لا الجوهر.

فإذا كانت العلمانية لا تعني هدم الدين، فهي أيضاً، لا تعني تحرير العقل للتأمل في العالم والإنسان وحماية الفكر والإبداع، كما يحاول أن يسوّقها بعضهم.

كما أن العلمانية ليست كما تم التعامل معها باعتبارها فصلاً للدين عن الدولة؛ فتعريفٌ كهذا فيه نوع من التحايل على الحقيقة. ربما الأدق القول إن العلمانية هي إخضاع الدين لسلطة الدولة؛ بحيث تصبح الدولة الوطنية هي المجسّد الأول والأخير للقيم والأخلاق العامة، لتجري إزاحة الدين من المجال العام، نازعةً القداسة من الدين في بادئ الأمر، ثم تضعها في الإنسان، معتمدةً على مقاربة فيلسوف المسيحية سانت أوغستين حين تحدث عن الجانب الإلهي المشرق في الإنسان، كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور.

بذلك، أصبح الإنسان هو مصدر القيم والأخلاق. ولكن سرعان ما سُحبت هذه القداسة لصالح الدولة الوطنية بأشكالٍ مختلفة وعبر مفاهيمٍ عدّة، كالقومية، أو الوطنية، أو التضحية من أجل الوطن وغيرها.

واعتماداً على هذه القداسة، أصبحت الدولة الوطنية هي المجسّد للمصلحة العامة، فتقتل وتسجن وتوقف حريات الناس وتثيب وتعاقب وتميز الناس بحسب الانتماء إليها وتعرّف من هو المواطن. وتحاول أن تظهر الدولة في هذه العملية كلها بمظهر المحايد. هكذا، تحاول أن تسوّق العلمانية نفسها، غير أن الدولة لم تكن محايدة في هذه العملية، بل قُتل كثير من القساوسة عقب الثورة الفرنسية بسبب ولائهم للبابا في روما، ورفضهم قسم الولاء للدولة الوطنية، ولم يكن هذا من باب فصل الدين عن الدولة، بل من باب رفض إخضاع الكنيسة لسلطة الدولة.

إذا كان تمييز الناس بحسب معتقداتهم الدينية رذيلة، فلنا أن نتساءل: هل أخفت العلمانية هذا التمييز؟ وهل المواطن العربي له نفس حقوق المواطن الأميركي؟ هل الإنسان الأجنبي له نفس حقوق رعايا الدولة الوطنية؟ وإذا كان قتل الناس باسم الدين هو الخطيئة الكبرى، فهل اختفى هذا في النسق العلماني؟ ألم تقتل الدولة باسم المصلحة العامة؟

يحاول بعضهم أن يسوّق لفكرة أن الديني هو سبب مشكلة العنف والتطرف في عالمنا العربي والإسلامي، متغافلين عن عنف الدولة وما تمارسه الأنظمة الاستبدادية من قمع وقتل لمواطنيها، وكل هذا يتم باسم الدولة وباسم الحفاظ على كيانها ولكننا لا نجد أي إشارة منهم لذلك.

إن تعريف الشخص لذاته في المجال السياسي بأنه علماني لا يعبر عن شيء، تصبح العلمانية في هذه الحالة دالة بلا مدلول، فمن الممكن أن تكون علماني وفاشي أو علماني وديمقراطي أو علماني ويساري وهكذا.. فالعلمانية ليست موقفاً سياسياً أو أيديولوجياً، وإن تعريفاً كهذا في المجال السياسي يطمس الكثير من الفوارق ويساوي بين الكثير من المواقف.

(مصر)

المساهمون