شريف... القمر الذي غيّبناه

15 سبتمبر 2017
شريف محمد قمر (فيسبوك)
+ الخط -
فى مايو/ أيّار الماضي، فوجئت بعد تنبيه عدد من الأصدقاء بوجود فيديو منتشر على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لشاب يدعى شريف قمر لم يتجاوز النصف الأوّل من العشرينيات، يتحدّث عن تقييمه لآخر كتاب صدر لي "آخر أيّام نوفمبر".

للحقيقة كان أوّل فيديو أشاهده يتحدّث عن عمل خاصّ بي، وعلى الرغم من أن الشاب أسهب في الإشادة بالكتاب حتى إنه أنهى الفيديو بعبارة "تامر خلّاني نفسي أقعد أشرب معاه فنجان قهوة في يوم من الأيّام"؛ إلا أنني، وبسبب طبيعتي الخجولة اللعينة نوعًا ما، تردّدت في الردّ، وعجز لساني عن شكره في لحظتها لكن بعد ساعات عدة لم أجد مبرّرًا لعدم ردّي؛ وضعت تعليقًا مقتضبًا على الفيديو.

ردّ على بشكل ودود زاد من خجلي. أحسست أن الشكر في تعليق غير كافٍ فطلبت رقم هاتفه. تهاتفنا. جاءني صوته نقيًا يشع مرحًا وإقبالًا على الحياة؛ أو كما تقول أمي في وصف أمثاله: "واد لما تشوفه أو تسمعه يخطف حتة من روحك".


طالب كلية الأسنان المثقف والكاتب الصحافي صاحب الروح اللطيفة التي أذابت المسافات بيننا في أوّل مكالمة فقال فجأة: "والله الأرض مش سايعاني من الفرحة إننا بنتكلّم بس عايز أطلب منك طلب ورحمة والدك". قالها بإلحاح صادق فقلت: "طبعًا أؤمرني يا شريف". قال: "تحققلي أمنيتي اللي في الفيديو ونشرب فنجان قهوة سوا"، أجبت سريعًا ومن دون تفكير: "يا سلام.. طبعًا".

توالت الاتصالات بيننا على مدار ثلاثة أشهر ولم يحدث اللقاء. تأجّل مرّة بسببه ومرّات بسببي. خمس مكالمات بيننا عرفت منه كل أحلامه وعرف منّي بعضها. تحدثنا في السياسة، وفي الأفلام، وفي الأغاني، والكتب، تحدثنا في كل وأي شيء.

اقتربنا وكأننا اكتفينا بالمكالمات عن اللقاء، أثناء المكالمة الرابعة كنت مصاباً بحالة إحباط قاسية متعلقة بظروف عملي حملها صوتي إليه فسألني بصوت قلق: "مالك يا أستاذ خير؟". أجبت: "مفيش شوية كده ويروحوا لحالهم إدعيلي". رد: "خليّها على الله مش هيحصل غير المكتوب والله". قالها وحاول أن يخرجني من حالتي بعدة نكات قديمة ألقاها على مسامعي. لم تضحكني ولكنني ضحكت على ضحكته الصافية، واختتم المكالمة بقوله: (خلّي بالك أنا مش بنسى ولسه مستني قعدة القهوة اللي بينا). أكدت عليه: "أكيد قريب جداً إن شاء الله".

في نهاية الشهر الماضي وقبل العيد بعدّة أيام هاتفني. ظننت أنه يحادثني لتهنئتي بالعيد. لكن صوته جاء محبطًا على غير العادة هذه المرة، حاولت أن أعرف ما به: "مالك يا ابني هو إحنا بنسلّم بعض الكآبة ولا إيه أنا مرّة وأنت مرة".

ضحكت ولم يضحك وقال: "ضاقت قوي يا أستاذ". قلت: "إحكيلي طيّب". قال بمرارة: "مفيش حاجة تتحكى كل واحد فيه اللي مكفيه". صمّمت. رفض، وبدّل دفة الحديث في أمور فرعية عدّة لم تستطع إخفاء رنة الحزن عنه. احترمت رغبته في الصمت وخمّنت أن أمرًا خاصًا يشغله أو حتى موجة ضيق بلا مبرر من تلك التي تنهش أرواحنا من وقت لآخر بسبب الضغوط، "والنبي ما تنسى لما ظروفك تسمح نشرب قهوة مع بعض"، قالها بسرعة وأنهى المكالمة التي كانت أقصر مكالمة بيننا وآخر مكالمة.

"انتحار الكاتب الصحافي الشاب شريف محمد قمر"، لم أصدّق عيني وأنا أقرأ الخبر الأسبوع الماضي وظننت أنني أخطأت الاسم لكن خاب ظني بمجرّد نظرة سريعة على حسابه الشخصي على فيسبوك! شريف مات! بالبساطة دي! منتحر! إزاي وليه وإمتى؟ لم أقابله. لم نحتسِ القهوة كما اتفقنا. ألا لعنة الله على الظروف والوقت الضائع وكل الأسباب.

شريف ليس الأوّل ولن يكون الأخير. شريف ونحن ضحية مجتمعات عقيمة تخنق أحلامنا وتصيب طموحنا بالحنق والمرارة. ضغوط أهل، ضغوط دراسة، ضغوط دولة، ضغوط من كل مكان. لا سامح الله من كان السبب.

لن أشغل بالي بطريقة وفاته "انتحر أو مات في حادثة أو توفي وفاة طبيعية". شريف وبشهادة أقرب أصدقائه وحتى قبل وفاته بساعات قليلة كان يوزّع لحوم العيد على الفقراء. صديقي شريف رحل عن الدنيا وهو زائد فيها، ولم يكن زيادة عليها، وقد تركها أحسن مما وجدها. رحمك الله وأسكنك فسيح جناته. إنا لله وإنا إليه راجعون.

المساهمون