سيكون هناك ليل

09 يونيو 2018
ديميتريس أنغيليس
+ الخط -

13.

أنهضُ من الموت كلّ صباح فلا أجدك قربي كي تواسيني. ثم يدخل مرقس مع أسده، ويوحنا مع نسره، ولوقا مع ثوره ومتّى مع خِلِّه الآدميّ. وها أندرو يُسقط القشور، والقديسة بيلاجيا في زيّ الرجال والقديسة كاثرين تمسك بزجاجة حليب.
خلقَنا اللهُ من ضلع الشتاء؛ لذلك نشعر بالبرد حين نكون وحيدين في الصباح، مهما يوقدُ الباقون منكم مِنَ النيران.


14.

يرتدي الرعاةُ مماطِرَ صفراء. تنطق وحوشُ الكهف باللغة اليونانية القديمة. ترقص تسعة ملائكة على إبرة الخيّاطة التي تحضّرُ ثوبَ الوليد وأتمددُ في المذوَدِ، مُكفَّناً، نصف ممسوس، مكرَّساً كقدّيس.
- لكني لستُ قَيْدَ الاحتضار، فأنا أحبّ الحياةَ، أنا، جهازٌ روحانيّ متفجّر في عالَمٍ خليٍّ من الروح، أنا، شاعرُ كُمونِ القتلِ اللانهائيّ، أخطُّ بطاقاتِ القصاص لأعياد الميلاد وراء الأبواب الفولاذية.
(كلمات عقيمة، عقيمة، إذ ليس مِنْ مُجيب، وحدها لثّتي تنزُّ الدمَ هذا الصباح).


15.

كلَّ ليلةٍ يدفع عربته من أطلالِ بابل، طافحةً بكلماتٍ رامَتِ الشقاق، ومن ثم تشكّلتْ ظروف حالٍ منقوصةً. قال إنّه كان هناك ملائكةً مَعِيْبةً وأنهراً تقتصّ ممّن تنكّروا لماءِ عمادتهم القدسيّ.
لطالما شهِدناه يهرولُ وحيداً، يلوّح براياتٍ تحت المطر- تلكمُ الثورة الحقّ الوحيدة. كان كافكا يهرول إلى جانبه في بعض الأحيان.


16، أ.
عيد الميلاد
تُمطرُ السماء على وحلِ مطرِ البارحةِ أوِ اليومِ الذي سبَقها ويعدو بيللا تار من أمامنا للمرة السابعة؛ قد ضلَّ طريقَه. يحلم بأننا صورٌ بالأبيض والأسود وأن يداً خفيّةً تخطّ على الجدار serep, leket, enem, وتلك التعاويذَ المغلَّفةَ بالسريةِ الآتيةَ من المستقبل. نقف تحت علّاقة صدئة ونتأمّلها. "أنتَ أيضاً تسكنُ مناماتِنا،" سنقول له إنْ دنا منّا أكثر. "التوجيه مهنة برجوازية صغيرة،" سيردّ " تار" وبالضبط قبل أن يغادر، سيُخرج من جيبه كِسراتٍ من فُسالة القمر ويرشّها في بُريكةِ ماء. تندفع مياه الأمطار فتحجبها، ها قدِ انقضى كلُّ شيء، انقضى منذ سنوات ثم لتضوع فجأةً رائحة المندرين؛ لكنْ إن كنتَ تحبّنا فلا ترحلْ.


16، ب.

أسمعُ عصْفَ تراتيل ملائكية آنَ الثلجُ يسّاقط في الخارج. أضواءُ جِنٍّ تتلألأ على أشجار الميلاد في الشارع. غير أني النقيضُ للثلج. وأنتم الـ Neverland. قدِ التقينا مُسرنِمِينَ، في أرضٍ سهْلٍ، حيث ينتصب ناسكٌ على أطلالِ صلواته ويسوطُ ظهْرَه وقد أذهبَ به الغيظ. يدلف مارميلادوف من بابٍ لامرئيّ، "كنتُ مخطئاً،" يقول، "ألتمسُ الصفحَ". ثم يتوارى.


17.

داخلَ سيارة أوبل كاديت تسير على الطريق السريعةِ عكسَ الزمن. طفل كسيح دامع العينين في المقعد الخلفيّ- لستُ أدري إن كان ابنيَ أو أبي في صباه- ينتظر الملاكَ في سِلوانِ الذاكرة. شيء ما ينبئني أن ذلك الطفلُ الذي أيقنتُ فجأةً أنه أنا سينتظر وينتظر عبثاً لسنين ستأتي.


18.

فجأةً تداعى جسده. كما حياته. يعتزم النهوض من جديد. كتَبَ "العمل". أشعلَ حطباً لمحرقة جثثٍ، أفرغَ رمادَ السنونو على رأسه، نأى بنفسه عن غياضِ ساعته الرملية. أيمكن استبدال البشر في حيواتنا؟ قعدَ وكتب مرة أخرى ’العمل‘. أخفقَ من جديد. وذات يوم عبَر بواباتِ حصنٍ بابليّ ثم لم يبدُ له أثر. لا أحد يدري إن كانت لعبة (غمّيضة) لا تزال تجري في غيابه.
(هنا، ينهض جوزيف روث من وراء طاولته وينظر لوهلة من خلال نافذة مفتوحة، في الخارج ليلُ السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر، وفجأةً سيكون من العسير على المرء أن يضحك.)


19، أ.

فتحتُ كتابَ روث مساءَ الاثنين لكي أفاجئها، غير أنها كانت هناك، تنتظر. "أنا جاهزة،" قالت، وهي تحمل حقيبةَ سفر بالية ممتلئة حتى تكاد تطفح بالقشّ الأصفر.


19، ب.

فتحتُ كتابَ روث صباحَ الثلاثاء، لكنّ " نادجا" أندريه بريتون كانت بانتظاري هناك. وعلى وقْع ضحكها الهستيري، آلَتِ الصخورُ القاسية، وغاباتُ البلوط العملاق القوطية والامتداداتُ المتجمّدة لبحيرة بايكال خلفيةً متآكلةً لسماءٍ أبديةِ الضياع.


19، ج.

فتحتُ كتابَ روث صباحَ السبت ولم يكن بانتظاري أحد. تلاشتِ الكلماتُ ولم يبق إلا أرقامٌ تحتها خطوط ورائحة جِلْدٍ محروق. أزلتُ الـ ألِفْ من الصفحة التي تتصدر الكتاب فعاد كلّ شيء إلى مجراه.


20.

"ابتُليتُ بعقودٍ من البليّةِ،" قال كريستوفوروس ذلك المساء. غالباً ما كنتُ أراه يمرّ بالأيقونات، وهو يحمل ولداً على ظهره، هو "أناهُ" الأكثر نقاءً. غير أنه يتسمّرُ أحياناً وفي نوبة انفعال يطلب إليهم تشغيل أغنيات سوتيريا بيلو كي يرقص على موسيقاها. ثم تُضاء مدينة أغرينيو وفي الظلال على الجدران يلوح كرأس كلب بأسنان ناتئة. لم يزل يجهل كيف يصل بيتَه وليس بوسعي مَدَّ يدِ العون له، فأنا أسكن في مكان آخر.


21.

قال، "السماء مقبرة الأحلام أما النجوم فشموع تضيء كلماتنا المخنوقة. أرى الشمسَ ساكنةً ومياهَ جوردان تتدفق عكس التيار. لكن فلتعلمْ: سيكون هناك سبيلٌ وليلٌ لنا".
يبعث بعسسه كلَّ ليلة كي يتلفوا حديقتك ويعقدوا شريطةً حمراء على نافذتك. ينادي عبْرَ الأبواق فتتداعى الجدران. عشرة فصول صيفٍ آفلة انضافت إلى سِنيِّ حياتك والشاهدُ الوحيد كلبٌ لا يتزحزح قيد أنملة.
عاودته السعادة مرة أخرى لأنه اجترح اسماً، وها هو يجرّه خلفه في الشوارع. يحبُّ ويغوص في الحب وسَطَ السِّهام. سيكون هناك ليلٌ وسبيلٌ لمن يشاء.


21، أ.
الفيحاء

في تلك الليلة والتي تلتْها وكلّ الليالي التي عبرتْ، قدنا سياراتنا بشكل محموم نحو الموصل. في الصباح التالي، نتأمّلُ آثار الحوافر التي وجدنا أننا عبرناها مراتٍ عديدة بعد منتصف الليل، مع ذلك بقيتْ لا مرئية، عصية على لبلوغ مثل مدينة أفلاطون الفاضلة الباطنية. فقط امرأة واحدة تاقتْ إليها وسرعان ما وقفت مثل عمودِ مِلْحٍ خارج البوابات الرملية، وهي تُرينا أن زمناً حلَّ وُجدتْ فيه طرق القوافل والقصور والساحات المزينة بالنوافير وأن التماثيل كانتْ حقيقةً.
إذاً سيأتي وقت نعود فيه إلى مدينة أحببناها. أحببناها كنهرِ شَعرٍ رمليّ، على عنق تملَّحَ بالبحر وراديو الترانزستور- بَيدَ أنها أُبيدتْ لأننا أوغلنا في مهاتراتنا العقيمة وربما لم نستحقّها في نهاية الأمر.


*Dimitris Angelis شاعر وقاص وأستاذ فلسفة يوناني من مواليد أثينا عام 1973، يعتبر من أبرز الأسماء الشعرية في المشهد الشعري الجديد في بلده. صدرت لأنغيليس خمس مجموعات شعرية: "فيلوميلا" (1998)، و"مياه أسطورية" (2003)، و"ذكرى سنوية" (2008) و"غزال ينتحب على سريري" (الصورة، 2015)، و"على وشك أن يكون إنجيليّاً" (2016) والأخيرةُ قصيدةٌ طويلة نُقدّم في هذه الصفحة ترجمةَ الجزء الثاني منها.
**ترجمة: أحمد م. أحمد

المساهمون