سيكستو رودريغيز.. "رجل السكر" في الخامسة والسبعين

12 يوليو 2017
+ الخط -

الموهبة الحقيقية لا تموت، وإن ضاعت لبعض الوقت. وإن امتد "بعض الوقت" هذا إلى ثلاثة عقود من الإغفال. هذه أحد الأشياء التي يحاول قولها الفيلم الوثائقي "البحث عن رجل السكر" الذي يحكي قصة البحث عن المغني الأميركي من أصل مكسيكي سيكستو رودريغيز (1942). حاز العمل على أوسكار أحسن فيلم وثائقي 2013. مالك بن جلول (1977 – 2014)، السينمائي السويدي ذو الأصول الجزائرية لحق برجل السكر، وجعلنا نرى كيف بحث الحياة في مسيرة رودريغيز الغنائية بعد ثلاثة عقود من النسيان.

رودريغيز الذي يبلغ هذه الأيام الخامسة والسبعين كان ليصبح أحد أشهر الأصوات الموسيقية في أميركا. لكن أميركا لم ترد أن تسمعه في فترة ظهوره. لم يعرف اسم رودريغيز كثيراً في الولايات المتحدة. الابن الذي ولد لأب مكسيكي هاجر إلى أميركا في عشرينيات القرن الماضي، لطالما تطرّق إلى العشوائيات والأحياء الفقيرة في أعماله.

عبر صوته إلى الضفة الأخرى من الأطلسي. أصبحت أغنياته جزءا من التعبير والكفاح ضد نظام الفصل العنصري "الأبرتهايد" في جنوب أفريقيا. صار لغنائه وقع لدى الجنوب أفريقيين أكبر وأكثر بريقًا من الـ"بيتلز" أو إلفيس بريسلي، أو بوب ديلان.

وصلت أسطواناته إلى البلد الأفريقي بصدفة أرادت لهذا الغريب الأميركي أن يقبع في قلوب السكّان الأصليين المعرضين لكل أصناف العنصرية. لم يعرف أحد مَن هو هذا الرجل الذي يجلس القرفصاء على غلاف أسطوانة أغانيه. ترددت قصص كثيرة عن حياته وموته ما بين أنه أضرم النار بنفسه على خشبة مسرح بعدما أدى إحدى أغنياته، أو أخرج مسدساً وأطلق رصاصة على رأسه، وتوالدت الحكايات عن اختفائه.

بعد ألبومين لم يحققا صدى في الأسواق الأميركية، استسلم رودريغيز للاختفاء. أصابه بعض الحزن، هو الذي عوّل كثيرون ممن عملوا إلى جانبه على أن يصير أحد أبرز مغنّي جيله. ظل يعيش في قاع المدينة الصناعية ديترويت كابن عائلة مكسيكية مهاجرة. وعلى مدى ثلاثة عقود، صارت مهنته هدم المباني. ارتضى العيش فقيراً، وظل يعزف لنفسه وللمقربين منه. لكن هناك، في جنوب أفريقيا، كانت أسطورة حياته وموته تكبر. صحافيون وموسيقيون نجحوا عام 1998 في العثور عليه بعد جهد استقصائي فريد. قرأوا قصائده بحثاً عن أي إشارة إلى المدينة التي أتى منها، وطبعوا على علب الحليب نداء بحث عن المغني، وأطلقوا منتدى إلكترونياً لمعجبيه. بعدها، حدثت المعجزة وعاد رودريغيز إلى الوجود بفضل ابنته التي اطّلعت على النداء.

في فيلم مالك بن جلول يصير البحث هو جوهر حبكة الفيلم. نلتقي المدن والأشخاص من ديترويت إلى جوهانسبرغ. تشعر بالبحث قائما طوال لقطات العمل. الثلاثون دقيقة الأولى من الشريط هي ما بين موسيقى رودريغيز وبين شهادات منتجين وموسيقيين عملوا إلى جانبه منذ بدايته عام 1968.

يتفقون جميعًا على أنّ الحياة لم تعطِ الرجل ما يستحق. بعد الدقيقة الثلاثين، يأتي تعليق مخرج الفيلم، ونلتقي رودريغيز الذي يعيش في البيت ذاته منذ أربعين عاماً. يحكي قصته بالكثير من الهدوء. يُقلّ من الكلمات، لكنه يحافظ على ابتسامة هادئة. الفيلم عن رودريغيز وموهبته لكننا نتتبع ذلك من خلال أعين الآخرين: رفاقه في العمل، أصدقاؤه، بناته، ومعجبوه الذين لم يلتقوه، لكنّه ألهمهم.

"البحث عن رجل السكر" يجعلنا نرى كم قد تكون الحياة ممزقة وهشة ومدوخة دون سيطرة منا عليها. الفيلم يجعلنا نرى كيف يمكن لرجل مهزوم أن ينطبع أثره ووجوده في ذاكرة جيل بأكمله في بلد يبعد آلاف الأميال عن الموضع الذي صدحت فيه أغانيه.

المساهمون