رامبو الضائع في عَدن

21 أكتوبر 2014
+ الخط -
لم يعد هناك ما يذكِّر برامبو في عدن غير المباني التي سكنها، وإن صارت لآخرين يجهل بعضهم من هو. فبعد أن أغلقت فرنسا المركز الثقافي الذي أنشئ في أحد هذه المباني وحمل اسمه، صار حلم رامبو بالبقاء في عدن بعيداً. فهذا العابر في حياته وضياعه، إن كان قد فضّل البقاء آخر سنوات عمره في هذه المدينة المشبَّهة بفوهة بركان، فإنّه فضّل أيضاً أن يدفن فيها. لم تكن رغبة رامبو، حسب بيير بتفير، "في أن يسجن في مقبرة شارلفيل، لكن في أحد مقابر هرر أو عدن". وهو ما تؤكده إيزابيل أخت رامبو في رسالة نشرها بتفير في كتابه "رامبو الشاعر والإنسان": "لو كان الأمر بيده، لودّ أن يُدفن في عدن، ذلك لأن المقبرة تقع على ساحل البحر، غير بعيد عن مكاتبه". لم يتخلّ رامبو، كما تقول إيزابيل التي رافقته آخر أيام حياته في أحد مستشفيات مرسيليا، عن الفكرة إلّا بسبب المعارضة التي كانت ستلقاها، وبالذات التعنت الواضح لوالدة رامبو، وبسببه تمّ الدفن في مقبرة العائلة بشارلفيل.
كان رامبو قد نوّه قبل عام من وفاته (في 11 نوفمبر 1891) إلى علاقته الطيّبة مع سكّان عدن، على الرغم من حدوث بعض المشاجرات والخلافات، يقول في رسالة إلى أمه: "لا يمكن لأحد في عدن أن يحكي عني بالسوء، بل على العكس من ذلك، الجميع يذكرني بالخير في هذا البلد منذ عشر سنوات". ويقول في رسالة سابقة: "أصبحت معروفاً وأستطيع دائماً العثور على عمل، أمّا في فرنسا فسأكون غريباً ولن أوفق بشيء أبداً".
مع ذلك، تثير علاقة رامبو بعدن الكثير من التساؤلات، فهو وإن فضّل أن يدفن فيها، وامتدح في بعض رسائله سكّانها، فقد كان في الأغلب لا يكنّ لها سوى الكره. إذ إن حياته في هذه المدينة (1880 – 1891) التي تخلّلها الكثير من الأسفار التجارية إلى سواحل البحر الأحمر ومدن أفريقية كثيرة، كانت مختلفة عن حياته الأولى كشاعر. فهو إذ تنكّر لكتابته الشعرية واعتبرها تجربة سخيفة ومقرفة وتافهة، فإنه لم يُعرف في هذه المناطق إلّا بصفته تاجراً، جاء بهدف تحقيق الثروة بأية وسيلة كانت. ونجده في رسائله (ترجمها شربل داغر تحت عنوان "العابر الهائل بنعال من ريح"، كما نجد بعضها في كتاب بيير بتفير الذي ترجمه حسين عبد الزهرة مجيد، وكذلك في الأعمال الكاملة بترجمة كاظم جهاد) يصف عدن بأنها "صخرة رهيبة" ، وأنّه يكدّ ويتعب مثل الحمار في بلد لا يعرف له غير الكره، و"لا يقيم فيه أحد إلّا مضطراً". ولا يتردّد حين يرى في عدن عام 1885 كيف كانوا يصلحون نظام الدفاعات تحسّباً للحروب، أن يعبّر عن مشاعره الفيّاضة بالكره: "يسعدني أن أرى هذا المكان مطحوناً تماماً. ولكن في الوقت الذي لا أكون فيه"!..
يلاحظ أن كراهية رامبو لعدن، لا تنفرد عن مجمل كراهيته لمثيلاتها من المدن والموانئ والبلدان التي عاش فيها ووصفها بأنها "بلدان شيطانية". كما وصف ناسها بالمتوحشين والأغبياء والبدائيين والهمج. ففي رسالة أرسلها إلى أهله في شارلفيل بفرنسا يصف عدن بأنها "المكان الأكثر ضجراً في العالم"، لكنه سرعان ما يستدرك: "بعد المكان الذي تسكنون فيه، طبعاً". وكان يقول لأهله إن العودة إليهم تعني أن يقبر نفسه؛ ونجده يكتب في 30 ديسمبر 1884 عن النشاط الاستعماري لفرنسا، الذي لم يكن ضدّه تماماً، في رسالة إلى أهله: "لا أعتقد بوجود أمة لها سياسة استعمارية سخيفة كالأمّة الفرنسية"، أمّا الإدارة البريطانية لعدن، فتدمّر بسياستها التجارة على هذه السواحل ولا "تهتم بشيء غير إذاعة الأكاذيب".
إلى ذلك، تظهر رسائل ووثائق رامبو أن هذا الحداثوي، في الشعر والحياة، يبرّر مجيئه إلى هذه البلدان والمناطق، بكلامٍ يختلف عن الشطحات التي يطلقها بعض الكُتّاب، فهو إذ عمل في كثير من المهن، بما فيها تجارة السلاح، يقول: "أنا ما أتيت طبعاً إلى هنا بحثاً عن السعادة. أنا لا أستطيع مع ذلك مغادرة هذه المناطق، بعد أن صرت معروفاً فيها، وبعد أن وجدت فيها وسيلة للعيش، بينما لن أجد في أمكنة أخرى غير الموت جوعاً، فقط لا غير".

المساهمون