ذاكرة الحياة في فيتيربو
وأنت تمشي في فيتيربو، تعود إليك رائحة حارات دمشق القديمة، البيوت الحجرية التي يعرّش الأخضر عليها، الورود على الشرفات والشبابيك، وهي تحاول أن تلامس جدائلها حجارة الأرض. ثمّة ذاكرة واضحة للمدينة، تراها في كل ما حولك، في المقاهي والمطاعم والبيوت والأرصفة والطرقات وأسطحة البيوت الآجرية، والحمام الذي يرافق سيرك أينما كنت، في ألفة سكانها، وفي حميمية ترحيبهم بك. ذاكرة تصل بك إلى (الشام القديمة) حتما، فثمّة سور يحيط المدينة القديمة، ويفصلها عن الحديثة، وثمّة بوابات تشبه بوابات دمشق، وثمّة إيطاليون يخبرونك، متفاخرين، أنهم من سكان داخل السور. وعلى الرغم من أن طابع القسم القديم من المدينة يوحي بالثراء، حيث النساء بكامل أناقتهن وزينتهن وحليهن منذ الصباح، وحيث الرجال الوسيمون المتأنقون يذكّرونك برجال العصور الوسطى في روايات تلك الأيام وأفلامها، إلا أنك تستطيع أن تكون بكامل حريتك وأنت هناك. لا أحد يهتم بملبسك ولا بتسريحة شعرك، ولا بطريقتك في المشي، ولا بغنائك مع أصدقائك آخر الليل.
ستنتبه إلى دلائل صريحة للأصالة في المدينة، تلمسها من صلابة الحجر الأسود الصغير الذي رصفت به شوارع المدينة، تلمسها أيضاً من الأمان، إذ يمكنك أن تنام في البيت الذي تقيم فيه، من دون أن تغلق شباكاً أو باباً، يمكنك أن تترك حقيبىة يدك في المقهى، وتغيب ساعتين، وتعود لتجدها مكانها ولم يخطر لأحد لمسها أو نقلها.
ستنتبه إلى شعارات النازية والفاشية على جدران المدينة. يخبرك بعضهم أن غالبية سكان المدينة يمينيون، ومع ذلك، ستحضر فعالية لأكبر حزب يساري إيطالي. يشارك فيها أصدقاؤك السوريون بفقرة راب سوري، تنتقد الأنظمة الفاشية والاستبدادبة، وتمجد الثورات واليسار. ولن تهتم في فيتيربو بصوتك العالي، ولا بسرعة حديثك، إذ سترى كثيرين من أهلها يشبهونك، ويشبهون طريقتك السورية في الكلام، صوتك المرتفع، إشارات يديك، تفاعل جسدك في أثناء الحديث، مقاطعتك أحاديث الآخرين بانفعال. ستشعر أنت السوري بهذا كله، وستراقب أصدقاءك السوريين القادمين من كل مكان في العالم إلى فيتيربو، وهم يتصرفون كما لو أنهم في شوارع باب شرقي، أو في حارات باب توما في دمشق، كما لو أنهم في هذه المدينة الصغيرة استعادوا حضن دمشق. لكن هذا لم يكن فقط بسبب المدينة، ولا سكانها، بل كان لفيض الحنين الذي ميز كل ما في السوريين في فيتيربو، حتى القادمون من سورية ولم يروا دمشق منذ وقت طويل، حتى القادمون من قلب دمشق، من باب توما وباب شرقي، كان حنينهم إلى دمشق واضحاً. يخبرونك، أنت الغائب عنها منذ ثلاث سنوات، أن دمشق لم تعد هي دمشق، الحزن يخيم على كل شيء فيها، شوارع باب شرقي المرصوفة بحجارة صغيرة تشبه حجارة فيتيربو لم تعد تصلح لخطوات الحياة، ولا لخطوات الفرح. شبابيك المنازل القديمة تغطت بالخوف، والشرفات مغلقة وصامتة، لم يعد العابرون هناك يشمون ذاكرة الأصالة، الذاكرة الآن عن البارود والموت والدم والذعر واليأس، الذاكرة عن العدم السوري. لهذا وجد السوريون في فيتيربو ذاكرة سورية عن الحياة.
عشرون يوما كانت ممتلئة بكيمياء الحياة، خلافات وتحالفات ونميمة وحب وقبلات وعتابات وبكاء وغناء ورقص وموسيقا وشعر وقص وتشكيل وتصوير وإخراج وفرح وحزن وغضب واستيعاب، وشهادات عن الألم، وعن الاعتقال، وعن الجوع، وعن الموت، وعن العجز، وعن القهر، وعن الذل. حياة سورية كاملة في عشرين يوماً، عاشها سوريون في مدينة إيطالية صغيرة، تدعى فيتيربو. كانت بمثابة شهادة عن إصرار السوريين على انتزاع الحياة والكرامة من بين أسنان الموت والذل. شهادة قدمها من شاركوا في ورشة عمل تحضيرية لمشروع إلياذة سورية، يحكي حكاية الألم السوري المتعدد، والمتنقل من مكان إلى آخر، فقد فاض الألم السوري عن الحد، وكثرت قصصه وتنوعت. في كل بقعة من سورية، ثمة طروادة مستباحة للموت، وفي كل سوري ثمّة هوميروس، يمكنه أن يحكي ما حدث. أما فيتيربو الوادعة فليست سوى الحلم الذي يريده السوريون عن سورية.