حين تغدو الوحدة صديقة الأيام

حين تغدو الوحدة صديقة الأيام

26 نوفمبر 2016
+ الخط -
بابٌ حديدي صغير، يخفي وراءه أشدّ القصص حزناً، إلى جانب أربعة جدرانٍ يحتمي بها عجوزان أثقل العمر كاهليهما، حتى باتوا مقوّسي الظهر.
طرقتُ ذاك الباب، ولم أكن أعلم أنّي أخفت من يقطن وراءه، فقد كانوا، وفي كلّ لحظةٍ، ينتظرون قدوم أحد، إمّا أولادهم أو الموت المفاجئ.
استقبلني أبو إبراهيم بابتسامة، وبدأ يتحدّث من دون تعب، كما لو أنّه ينتظر أحداً ليستمع له، ولآلامه التي كبرت مع الأيام، حتى باتت واضحة الملامح على وجهه الممتلئ بالتجاعيد.
رحبت أم إبراهيم بي، وطلبت أن أرنو إليها لتقبّلني، كانت مسنّة عاجزة القدمين. كان وجهها يوحي بملامح جميلة وحادّة في صباها، لكن المرض والحزن نالا من ذاك الجمال.
غرفة صغيرة، جدرانها متشقّقة، مدفأة صغيرة مشتعلة، صندوق خشبي قديم يبدو أنّه منذ أيام زواجهم الأولى، مصفوفة فوقها أغطية ومخدّات كثيرة، صور معلّقة على الجدران وتلفاز صغير... تلك كانت تفاصيل غرفة أبو إبراهيم وزوجته، تفاصيل صغيرة، ويمكن أن تتكرّر في منازل كثيرة. لكن في بيت أبو إبراهيم كلّ زاوية كانت حزينة، كلّ غرض كان يحكي قصة، تلك الأغراض كانت وفيّة أكثر من أولادهم ولم يفارقوهم.
جلستُ بالقرب من المدفأة، بعد أن صبّ أبو إبراهيم كأساً من الشاي، وناولني إياه، بدأنا ببعض المزحات والضحكات الصغيرة، حتّى وصل الحديث إلى أولادهم، وفجأةً، تغيّرت ملاحهما، خيّم حزن وصمت كبيران على الغرفة، قطعهما أبو إبراهيم بقوله: "منذ أكثر من ثلاث سنوات، لم أر أحداً منهم، سوى ابنتي الصغيرة التي تزورنا بين حين وآخر".
"يحضّر طعامي، يغسل ملابسي، أبو إبراهيم رفيقي في الحياة"... هذا ما قالته أم إبراهيم، ثم توقفت عن الحديث، بعد أن غلبتها الدموع، كانت تنظر إليَّ بنظرات ملؤها الحب، إذ يبدو أنّني من القلّة القلائل ممن يدّق بابهم، ويجلس ويستمع إليهم، وعلى الرغم من نطقها البطيء والصعب، إلا أنّها أكملت حديثها لي أنها، في كل يوم تنتظر أن يدق أولادها الباب، ليطمئنوا عليها وعلى والدهم. لكن، طال الانتظار وسيطول.
تمرّ ليالٍ طويلة على أبو إبراهيم وزوجته، يتذوّقان عذاب الوحدة في كل لحظة، صفير الهواء المار من النافذة الصغيرة يؤرق نومهم كل يوم.
كم من أبو إبراهيم أنجب وربّى، قضوا أصعب الأيام حتى كبر الأطفال، وفي كبرهم لم يجدوا أحداً بجانبهم، تمضي أيامهم من دون أن يسأل أحد عنهم تنهكهم الوحدة القاتلة. هكذا هو قدر أبو إبراهيم أن يجلس كلّ ليلة بجانب زوجته، لينتظرا الموت الذي سيخلصهم من هذه الحياة البائسة.


1AE70A4C-677B-4D2A-AE91-DF0823C4C9A6
1AE70A4C-677B-4D2A-AE91-DF0823C4C9A6
آريا حاجي (سورية)
آريا حاجي (سورية)