جسر نايسه بين ألمانيا وبولندا موحّد أوروبا

18 سبتمبر 2014
نهر نايسه يشهد على وحدة أوروبا الحالية
+ الخط -
هنا إذا توقف أحدنا قريباً من نهر نايسه، في مدينة جورلستن، ثمة جسر صغير يربط بين ألمانيا وجارتها بولندا.

صفحات كثيرة طُويت كانت محلاً لتاريخ من العداء، التقارب والتباعد، إبّان تقسيم أوروبا إلى معسكرين شرقي وغربي، وسمت ذاكرة المكان، إضافة إلى مزايا الحياة المشتركة ثم المنفصلة، لغة ونمط حياة وعادات ثقافية، يمكن العثور عليها لدى زيارة هذه الرقعة الحدودية الصغيرة، وذلك بمجرد النظر إلى النهر، الذي يقسم مدينة كانت واحدة، داخل الحدود الألمانية قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، ثم صارت اثنتين عقبها، كي يعود الجسر لاحقاً ويربطهما معاً من جديد، ويشهد بذلك على وحدة أوروبا الحالية.

قبل الحروب ربما يعتبر هذا الجسر أقصر وأصغر جسر في العالم كلّه. لكن، فضلاً عن صغر حجمه، فإنه يتمتع بقيمة تاريخية، إذ يشير إلى تغييرات جغرافية حصلت بعد سلسلة حروب اجتاحت أوروبا، وقسّمت دولاً وبلدات عديدة، إضافة إلى قيمته الثقافية والاجتماعية من خلال إظهاره فروقاً لغوية بين كلّ من بولندا والتشيك وألمانيا، الدول الثلاث التي تتقاسم سمات جغرافية وثقافية متقاربة الخصائص، إضافة إلى تمايزات اجتماعية، إن كانت في أنماط الزي المنتشرة هنا وهناك، أو ميزات العمارة المنزلية، أو حتّى لدى تأملك في مختلف أنواع الأطعمة، وصولاً إلى أسعار المشتريات.

جسر واحد ومدينتان شقيقتان
يربط جسر نهر نايسه ما بين المدينتين الشقيقتين، جورلستن الألمانية وجورلستن البولندية منذ عهد قديم، حينما كانت المدينة لا تزال تنتمي كلياً إلى سلطة الدولة الألمانية، ولكن مع إعادة ترسيم الحدود في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) ثم الثانية (1939- 1945)، انقسمت جورلستن إلى قسمين.

القسم الأول بقي داخل الحدود الألمانية، والقسم الثاني جرى ضمّه إلى بولندا تحت إمرة الحكم الشيوعي التابع حينها إلى الاتحاد السوفييتي.

لكن جورلستن بكاملها، في الحقيقة، ظلت تمثل نقطة التقاء لثقافات عدّة، ألمانية وبولندية وتشيكية. عبور الجسر حال عبور الجسر إلى الطرف البولندي، سرعان ما تتغير الأمور، بدءاً باللغة إلى الطعام، والأسعار، والهندسة المعمارية، انتهاء بمحال الألبسة التي تعتمد الموضة الحديثة مع لمسات روسية أنثوية.

في الطرف الألماني تميل الموضة إلى النمط الأوروبي، شمالي الطابع، المستوحى من الغابات والطبيعة، فيما الجهة البولندية من المدينة تتمتع بإطلالة واسعة على نهر نايسه الذي يفصل المدينتين، في الوقت الذي تشهد فيه الجهة الألمانية الكثير من أعمال الإصلاح، نتيجة فيضان النهر، وما يعقبه من أضرار على المباني والطرق القريبة.

عند نهاية الجسر، على الطرف البولندي، تواجهك أبنية تم ترميمها برعاية الاتحاد الأوروبي، لتأخذ طابع الأبنية في جورلستن الألمانية.

كلف المشروع مبالغ ضخمة، لكن خلفه من بعيد تطل أبنية عالية، بنظام معماري مختلف تماماً، ينتمي إلى الحقبة السوفييتية، حيث كان البناء يعتمد على تشييد أبنية ضخمة متعددة الشقق، مخصصة للطبقة العاملة، ينقصها التفرد والتميز الهندسيان، في كتل باتونية شاهقة لا تتناسق مع روح المدينة القديمة.

المشروع الجديد برعاية أوروبية، يعتبر واحداً من عدة مشاريع بدأ الاتحاد الأوروبي بتنفيذها في جورلستن، بشقيها الألماني والبولندي.

على الصعيد الاقتصادي، يتميز الجانب البولندي من المدينة بانخفاض الضريبة على المواد الغذائية، ولا تزال "زلوتي" العملة المحلية مستخدمة، مما يجعل الأسعار منخفضة إذا ما قورنت بالأسعار على الجانب الألماني، الأمرالذي يدفع بالكثير إلى زيارة الطرف البولندي بغية شراء التبغ المعروف بسعره المرتفع في ألمانيا والمشروبات الروحية، ومواد أخرى، إضافة إلى أن الجلوس في أحد المطاعم على الجانب البولندي المطل على نهر نايسه أمر لا يفوّته الألمان أو السياح، إذ تجذبهم الأطباق البولندية الشهية.

فالمطبخ البولندي يتميز بسلطاته المتنوعة وحسائه الجيد وغرابة مذاقه التي تلبي في الوقت ذاته الذائقة الألمانية، لذا لا يفوّت الألمان فرصة تناول وجبة الغداء أو العشاء هناك، وفي نهاية الأسبوع يصعب عليك أن تجد مكاناً في هذه المطاعم.

مدينة جورلستن مدينة لها تاريخ صناعي عريق، كانت من المدن التي تفاخر بغناها، وانعكس هذا على عمارتها التي تتميز بأبنية على طراز القرون الوسطى، وساعتها المقامة في ساحة المدينة أحد الشواهد الباقية على هذا الملمح، إضافة إلى المباني العسكرية بأبراجها العالية، وكنيستها الشهيرة في أوروبا، ذات الأبراج الشاهقة التي يمكن من خلالها إلقاء نظرة على البلدان الثلاثة ألمانيا، التشيك وبولندا، إضافة إلى وجود أضخم مركز تجاري وأقدمه على الإطلاق في أوروبا، والذي يتميز بعراقة هندسية قل نظيرها، ويشهد أيضاً على جمال المدينة، وغناها.

أما حاضر المدينة الآن، فيتجلى بقدرتها الفائقة على تجديد الأبنية التي هدمتها الحرب والفترة السوفييتية، فالقسم السوفييتي من ألمانيا الشرقية شهد في الفترة الاشتراكية تدهوراً واضحاً في مجال العمارة، إذ خفت الوهج الخلاب والمميز للكثير من المدن الألمانية، وحل التشابه سمة للعمارة، وغدت الأبنية الألمانية رمادية اللون يظهر عليها القدم والإهمال، إضافة إلى ما حطمته الحرب، وما أصابه الإهمال، مما جعل المدينة تفقد أهميتها المعمارية والجمالية.

لكنها نافست وعادت من جديد بقوة لتحصل على لقب عاصمة الثقافة الأوروبية سنة 2010 وتمكنت من الحصول عليه. كما يشهد للمدينة تراثها القديم في صناعة الجعة، ففيها أقدم مصنع للجعة في ألمانيا.

يبقى أن بولندا تعد بالكثير، وكانت من الدول السبّاقة التي خلع الرداء الشيوعي، وسارعت إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وألمانيا جارتها تمد لها يدها بقوة لبناء علاقات وثيقة، وما الجسر بينهما إلا دليل ظاهر للعيان.

المساهمون