ولأول مرّة لم يلجأ حزب "المؤتمر الوطني" لعملية المراوغة والتلميح بإمكان تأجيل الانتخابات في حال التوصل إلى توافق مع الأحزاب السياسية ضمن عملية الحوار الشامل، الذي دعا إليه الرئيس السوداني عمر البشير، في السابع والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي. وهي المراوغات التي درج الحزب على ممارستها لقطع الطريق أمام الأحزاب المعارضة المشاركة في الحوار.
وبهذا، يضع نظام البشير نهاية دراماتيكية للحوار، في ضوء ما كانت القوى السياسية المعارضة، وفي مقدمتها حزب "المؤتمر الشعبي" بزعامة حسن الترابي وحركة "الإصلاح الآن" بقيادة غازي صلاح الدين، قد أعلنته حول رؤيتها للانتخابات، والتي رهنت مشاركتها فيها بنتائج الحوار، بما يمهد الطريق لتشكيل حكومة انتقالية.
والمراقب لمجريات المؤتمر الصحافي الذي أجراه نائب رئيس حزب "المؤتمر الوطني" إبراهيم غندور، يتأكد من نيّة النظام نعي الحوار، عبر حديث غندور أن "الحوار سيمضى بمن حضر"، على الرغم من تأكيده أن غياب الحركات المسلحة والأحزاب الرافضة للحوار (تحالف المعارضة وحزب الأمة بزعامة الصادق المهدي) ستجعل منه ناقصاً، إلا أنه أكد أنه إذا أفضى في نهاية المطاف إلى التوافق مع حزب أو حزبين من المعارضة فإنه سيؤثر إيجابياً على الساحة السياسية.
وهو الأمر الذي يبدي مراقبون التخوف منه، كون الحوار، بهذه الصورة، لا يعدو أن يكون مجرد تكتيك من النظام الحاكم لشلّ تفكير الأحزاب المعارضة في ما يتعلق بالانتخابات، والوصول إلى تفاهمات مع عدد محدود منها وإلحاقها بالحكومة، ومن ثم إجراء الانتخابات لإضفاء شرعية أكبر على النظام.
كما أن المتابع للمؤتمر الصحافي وللحديث السابق للبشير، يكتشف بوضوح تخوفات الحكومة من تكرار السيناريو اليمني في حال الرضوخ للتسوية السلمية، إلى جانب استعدادها لمواجهة المجتمع الدولي، الذي يعلم الحزب الحاكم أن تقاطعات مصالح تحرّكه حين يحسن استخدامها.
وفي السياق، تقول مصادر لـ"العربي الجديد"، إن "الحزب الحاكم شرع فعلياً في إقناع الأحزاب الموافقة على الحوار بجدوى إجراء الانتخابات في وقتها وضرورة مشاركتها". وأكدت المصادر أن الحزب الحاكم عرض على "المؤتمر الشعبي" تسوية لضمان مشاركته، تتصل بتكوين حكومة جديدة خلال نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بحصص محددة تستوعب كافة أحزاب الحوار.
وتضيف المصادر أن مشاركة "المؤتمر الشعبي" في الانتخابات باتت شبه محسومة، ولا سيما أن زعيمه الترابي، بدا حريصاً على إبقاء الإسلاميين في الحكم بعد إطاحتهم في مصر.
وبينما الموقف الرسمي للحزب، الذي قررته الأمانة العامة، يتمثل في مقاطعة العملية الانتخابية الجارية برمتها، يجد المراقب لتحركات "المؤتمر الشعبي" خلال الفترة السابقة، أن المواقف المعلنة تختلف تماماً عن التوجه الحقيقي للحزب، وهذا ما لا ينطبق على "الشعبي" فقط، وإنما على كل الأحزاب السودانية بما فيها الحزب الحاكم.
وفي ما يتعلق بقضية الحوار، تبدو مواقف "الشعبي" المعلنة الأعنف مقارنة بباقي القوى، إذ واصل رفضه القاطع لمجرد الجلوس إلى الحزب الحاكم، الذي انشق عنه في التسعينيات من القرن الماضي، ليتراجع ويقبل التفاوض بشروط إلى أن وصل لمرحلة الموافقة على الحوار من دون شروط والسخرية من الأحزاب التي ترهن مشاركتها بمطالبات، على الرغم من أنها ذات المطالبات التي تبناها سابقاً. وهو الأمر الذي يشكل صدمة للشارع السوداني، ولا سيما أنّ العوامل نفسها التي دعته إلى المشاركة في الحوار يمكن أن تقوده إلى صندوق الانتخابات، ومن بينها عدم ثقته في المعارضة، وحرص زعيمة على احتفاظ الإسلاميين بالسلطة.
يقول الأمين السياسي لـ"المؤتمر الشعبي" كمال عمر، لـ"العربي الجديد"، إن "قرار مقاطعة الانتخابات بشكلها الحالي صدر من أعلى سلطة تنظيمية في الحزب" (الأمانة العامة). ويضيف "لن ندخل انتخابات في ظل سيطرة المؤتمر الوطني على الحكومة، وباستمرار أزمة الحرب والحريات وفي غياب الحوار"، راهناً مشاركتهم بانتفاء كل هذه الأزمات، إلى جانب تكوين حكومة انتقالية ببرنامج انتقالي تشترك في إعداده كافة الأحزاب بلااستثناء.
ويرفض عمر الربط بين المعطيات التي قادتهم إلى الحوار والانتخابات، مشدداً على أن "موقفنا من مقاطعة الانتخابات مفصلي".
وفي الانتخابات السابقة التي جرت عام 2010، خالف "المؤتمر الشعبي" تحالف المعارضة الذي كان ضمنه، وقرر خوض العملية الانتخابية التي قاطعتها جميع أحزاب المعارضة، بما فيها "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، والتي اقتصرت مشاركتها على ولايات الجنوب.
وبالعودة إلى مواقف الأحزاب المعارضة بشأن الانتخابات، فقد حسمت موقفها لصالح المقاطعة، بما فيها حزب "الأمة"، في الوقت الذي تتجه فيه حركة "الإصلاح الآن" نحو الانسحاب من الحوار نفسه، ولا سيما أنّ الحركة التي خرجت حديثاً من الحزب الحاكم كانت من ضمن الأحزاب المشككة في دعوة الحوار، وكثيراً ما جاهرت بأنه مجرد واجهة للوصول للانتخابات.
ويرى المحلل السياسي الطيب زين العابدين، أن مشاركة "المؤتمر الشعبي" في الانتخابات المقررة الأسوأ، باعتبار أن التحالف سيصبح تحالف إسلاميين يُفضي إلى استقطابات حادة ويعمّق من الأزمة. لكنه يعتبر أن احتمال مشاركة "المؤتمر الشعبي" ضعيفة مقارنة بما يمكن أن يدفعه ثمناً لها بالنظر إلى التململ داخل الحزب من مجرد المشاركة في الحوار. ويوضح "كما أنها ستفقد حزب المؤتمر الشعبي صدقيته التي بدأت تهتز بعد مواقفه في الحوار".
وبخوض الحزب الحاكم الانتخابات من دون الالتفات للحوار يكون قد قرر إعادة إنتاج الأزمة الراهنة مع تعقيدها بشكل أكبر، في ظل انسداد أفق الحلول، ولا سيما أنّ المراقب للمعارضة يجد أنها ضعيفة جداً، وخصوصاً أنها أضاعت الفترة التي أعقبت توقيع اتفاقية السلام الشامل قبل سنوات في إعادة تنظيم نفسها والتصاقها بالشارع لتكون أكثر فاعلية، وأضاعت الفترة التي امتدت لست سنوات في المشاكسة مع النظام.