الصفا والمروة... سعي من أجل الإنسان

الصفا والمروة... سعي من أجل الإنسان

13 سبتمبر 2016
+ الخط -
شعور بالهيبة يفيض بالقلب عند مشاهدة حجيج بيت الله الحرام، وهم يؤدون مناسك الحج، فيه من المعاني الروحية والقلبية ما تعجز الكلمات عن صياغته، ويستحيل على الحركات وصفه، فهذا الحشد البشري الهائل في صعيد واحد، وبلباس موّحد، يؤدون العبادة والمراسم نفسها، ويتمتمون بلغات الأرض كلّها بدعاء واحد، لله الواحد الأحد، فلا تعجز لغة عن الوصل بأهلها إليه، ولا يحول بينه وبين عرقٍ عرقٌ آخر، ولم يرتفع على بابه مرتفع، ولم يوضع عليه وضيع، فالكلّ هنا سواسية لا فضل بينهم إلا بأعمال القلوب.
لم تكن هذه البقعة من الأرض عامرةً بالبشر، ولم تكن تهوي إليها أفئدة الناس، فقد كانت أرضاً ميتة لا تحمل أيّاً من وجوه الحياة، خراباً لا روح تخفق بها، ولا جناح يرف فيها، ولا غصن عليها يهتز، حتى أذن الله لها أن تحيا على يد امرأة واهنة تركت فيها لأمر الله وحيدة هي ورضيع لها، تنافح الخوف والوحشة بحسن ظنها بربها، فالله ولي الصابرين وحسيبهم.
يستجديها وليدها جوعاً وقد نفذ طعامها ونضب ثديها، وعجزت حيلتها، وأسقط في يدها حتى أوشك أن يتملّكها القنوط، وكادت خيبة الظنون أن تتسلّل إلى قلبها الموجوع، فالجوع يعتصر الوليد، ويقرض أحشاءه ألمُ الحاجة إلى رضاعة لا تستطيع إليها سبيلًا، فانتفضت أركانها وانطلقت سيقانها نحو الصفا مرة ونحو المروة أخرى، تسعى بينهما سعي المستجير علّها تجد من الإنس من يستغاث به أو من الطعام ما يُقتات عليه، تحث الخطى تهرول من هناك إلى هناك بلوعة أم، وعاطفة أم، وقلب أم، عزلاء لا غاية لها من سعيها إلا أن تفعل شيئًا لأجل إنقاذ طفل جائع.
تجيرها السماء وتغيثها انتصاراً لإنسانية قلبها الملهوف وتلبية لرجائها المشفوع بالصدق، إذ تأذنُ للأرض أن تفجر ينبوعَ ماءٍ عذبٍ رقيق المذاق غني مغداق، تنقذ فيه امرأة ورضيعاً من موت محقّق وتحيي به أرضاً ميتة، وتصبح تلك الخطوات الحثيثة الملهوفة المرهقة الحائرة شعيرة من شعائر الله وركنًا من أركان عبادته.
ليس السعي بين الصفا والمروة هرولة بين جبلين، هو وخزة في صميم الإنسانية المتأخرة وعودة بها إلى يوم كانت فيه امرأة ملهوفة ضاقت عليها الأرض سبباً في إنبات حضارةٍ مستحيلة في أرض جرداء لا حياة فيها ولا رجاء، إنّه سعي من أجل الإنسان، وهرولة في سبيل الحياة، وهروب من اليأس إلى فسحة المستطاع، وشعيرة ترق بها القلوب وترتقي بها الأرواح، نؤديها بعد آلاف السنين، فنسعى السعي نفسه، ونهروّل الهرولة ذاتها باتباع متناهي الدقة، وكأنّنا نعيد تمثيل المشهد من جديد، فهل أدرك الساعون مقصد شريعتهم؟
A84AF527-8738-4F61-8A2D-F8686B877274
A84AF527-8738-4F61-8A2D-F8686B877274
محمد ريان (فلسطين)
محمد ريان (فلسطين)