الصحف النسوية السرّيّة

11 فبراير 2016
كانت الهموم والأفراح اليومية تدخل البيوت عبر أمهاتنا (Getty)
+ الخط -
كان لدكان (الأستاذ خالد) في شارعنا دور الصحيفة والنافذة الصغيرة الوحيدة المفتوحة على بيوتنا المتشابكة.

كان شعاع الشمس المتدفق من وراء "جبل كوكب" يسعّر الرأفة في آثارِ خطوات الأمهات المنقوشة بأشكال اعتباطية على التراب المضبوب والمرشوش بالماء بغرض إسكات الغبار كما يُسكَتُ طفل داخل مهده، الأمَّهات حاملات أوانيَ نظيفة ومتشابهة في ما بينها، أوانيَ تسع الواحدة منها كيلوغرامين من اللبن البلدي الوافد من القرى المجاورة لمدينة الحسكة عبر نسوة يتقنّ فن المشي بطناجر ضخمة أعلى رؤوسهنّ، كنَّ أمهاتٍ أيضاً، كان هناك من يقرأ شعاع الشمس على آثار أقدامهنّ فجراً، أيضاً، مثلنا نحن أطفال الحي.

لم تكن آنها العائلات قد قرأت ما يخصّ توزيع وتنظيم الإنتاج في المجتمع الذي لم يك قادراً على فكّ الحرف، كنّا أميين في ما يتعلق بالأمور التقنية المتعلقة بتحرر المرأة وأشياء من هذا القبيل، كانت البيوت مقسّمة فطرياً ما بين الأب والأم، أي المهام والحقوق والواجبات، لم يكن هناك من كتاب مكتوب في دول العالم "المتحضرة" مفتوح على أسطح بيوتنا الموحّدة، كان الآباء يصنعون البيوت فيما يشبكون نهاية السقف مع سقف الجيران لإعطائه قوة وصلابة، العملية هذه كانت جزءاً من التضامن واستنهاض القوة في النفوس عبر الجماعة، على هذا النحو كان كتاب العائلة مدوّناً في بيوتنا الصغيرة والمنسية مثل أيّ شيء صغير ومنسي على كوكب الأرض.

كانت الأمهات تلاميذ الكتاب الشفهي والروحي، ذاك الكتاب اللامرئي والذي لم يناقش في مجتمعاتٍ دوّنت كتباً ومجلدات ضخمة لتسيير العلاقة المجتمعية ما بين الأب والأم، الرجل والمرأة، إذاً.. كانت الأمهات ينسجنَ سجادة الرأفة في الطرق والأزقة من الأرياف صوب دكان (الأستاذ خالد) عبر العمل والإنتاج والقوة لتضع الخيوط في أيدي أمهاتنا داخل الحي الصغير فيكتمل شكل تلك السجادة الموحّدة والشاملة والمتشابكة إثر الأفعال والواجبات والأعمال اليومية لأمهاتنا داخل البيوت.

كان لدكان (الأستاذ خالد) دور الصحيفة في حارتنا، كانت أخبار أبناء الحي وآلامهم تنتقل إلى البيوت بعد سردها على عتبة الدكان ذاك، كان غير ظاهر شغف الرغبة إلى إعلام يوثّق الناس بعضهم ببعض، ولا سيما أنّ الحكومة مشغولة بربط الناس إلى القصر الرئاسي عن طريق وسائل متعددة، القصر الرئاسي، دكان النظام السوري، حيث كانت الأخبار تُصنع فيه وتُضَخ إلينا نحن المجتمع البعيد عبر التلفزيون السوري الأرضي آنذاك.

لم يكن يهمّنا ما يذاع ويضخ من (دكان الدولة السورية) آنذاك، فشلت الحكومة، فشل "الرئيس" في استدراج الناس صوب دكانة الولاء تلك، كنا نشاهد من بعيد ذلك الدكان، كانت تجربة العيش مع حالة إعلامية مصغرة داخل الحي عبر (دكان الأستاذ خالد) تجربة تخصّنا لأنها وبكل بساطة كانت تحاكي ذواتنا، كانت النسوة حرائر في السرد الشفهي، القضايا كلها مفتوحة على الهمّ الخاص والعام معاً، أي، لم يكن هناك من مرشد يدلّ الأم إلى حديث أو سرد أو خبر بعينه، لذلك، ولأسباب عديدة كانت هناك رغبة خفية وظاهرية للخروج على الدولة.

كانت الهموم والأفراح اليومية تدخل البيوت عبر أمهاتنا العائدات مع سطول اللبن البلدي وكنّا نستمع إلى الرأفة في الحارة من ألسنة أمهاتنا لحظة تناولنا وجبة الفطور، كانت (السفرة) موضوعة على الأرض إلى جانب أسرّتنا، الأمر ذاك كان قراءة باطنية لتوثيق المرء بالأرض خارج سرد (دكان القصر الجمهوري السوري) الذي اعتمد على صور وأغانٍ تحاكي الحرب فتحصل على النتيجة ذاتها لكنّها فشلت.

الإعلام النسوي الشفهي في شارعنا الطويل، أو التقاطع الممتد من (فرن الصالحية) شرقاً إلى (سور أرملة) غرباً و(الكراج) شمالاً إلى بيت (نوري) غرباً، لم يكن الحالة العاطفية الوحيدة في حيّنا المتآلف والمتعاضد، كان شعاع الشمس مجتهد في الأزقة والشوارع المتفرقة والذي كان يسعّر الرأفة في آثار أقدام نسوة أمهات أخريات متجهات فجراً صوب دكاكين أبدية مثل (دكان بدران، دكان اسماعيل، دكان شريف، دكان بيت جوعان، دكان فيروزا)، كانت النسوة مجتمعات يتّفقن على إنجاب حوالي سبعة أطفال طوال حياتهنّ، كانت ثمة دراسة باطنية وبحث مجهول عاطفي في إيجاد الحلول العاطفية لمفهوم الفقد ـ الهمّ السوري العام في زمننا هذا.

(سورية)

دلالات