أنا مع السترات الصفراء

16 ديسمبر 2018
(احتجاجات أمام "قوس النصر" في باريس، تصوير: تيري شينو)
+ الخط -

أودّ، في البداية، أن أقول إنّي لو كنتُ اليوم مقيماً في فرنسا، لساندتُ بالقلم والساعد "احتجاجات السترات الصّفراء". عشتُ في مدينة ليون لمدّة سنوات ولطالما تساءلتُ مع رفاقي الفرنسيّين عن سبب القنوع والخمول وأحياناً الذلّ الّذي يرضاه الشعب الفرنسي لنفسه، وهو شعبُ أوّلِ وأهمِّ ثورة في تاريخ العهد الحديث، دعت إلى منظومة كونية تتجاوز حدود فرنسا وأوروبا لتصل إلى الإنسان كقيمة وركيزة واحدة لا تتجزّأ، بغية أن تكون البشرية أينما وُجدت الحلَّ لا المشكلة.

لهذا السبب، لا يمكنني التشكيك في مصداقية مطالب "السترات الصّفراء"، فهي أساساً مطالب اجتماعية مشروعة يطالب بها عامّة الشعب من مستضعفين ومفقَّرين من شغّالين كادحين من جهة، ومن جهة أخرى من عاطلين عن العمل همّشتهم السوق وجعلت منهم كائنات أشبه بالأشباح منها إلى البشر أو المواطنين، علماً أن البند الثاني من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن" المنبثق عن الثورة الفرنسية بتاريخ 26 آب/ أغسطس 1789 يقرّ الآتي: "إنّ غاية كلّ تنظيم سياسي الحفاظ على الحقوق الطبيعية وغير التقادمية للإنسان. هذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن والمقاومة ضدّ القمع".

من هذا المنطلق، كيف يمكنُ معارضة مطالب "السترات الصّفراء"؟ ليست الحقوق التاريخية للشعوب شعارات واهية أو صفحات في كتب التاريخ، هي واقعٌ وحقيقة وفعل يومي. هذا هو الفرق بين العالم المتقدّم، بين الديمقراطيّات، وبين الدول المتخلّفة.

كمواطن تونسي عاش وشارك في ثورة الحرية والكرامة، لا يمكنني أن أكون مع الثورة في موطني وضدّها في ليبيا أو مصر أو سورية أو فرنسا أو كتالونيا. ليس للشعوب فقط الحقّ في تقرير مصيرها، بل عليها أن تفعل ذلك بكلّ الطرق. طريقة "السترات الصّفراء" كانت عفوية في البداية. مواطنون عاديّون دون أيديولوجيا أو انتماء حزبي جمّعوا شملهم على المواقع الاجتماعية (فيسبوك خاصّة)، وقرّروا أن يلبسوا "سترات صفراء" يلبسها عادةً الناس في الطريق في حالة الخطر.

هو إذن إعلان بذلك، أي هو صفّارة إنذار من خلالها تعبّرُ شريحة من المجتمع عن هلعها وضياعها وفقرها وجوعها. ليست هذه شعارات أو إنذارات كاذبة، هي حقائق لا تخفى على العارف بشؤون بلدٍ مثل فرنسا صار عبر السنين بلداً من الجنوب، أي بلداً متخلّفاً، بفعل سياسات خاطئة متعاقبة، سياسات واختيارات مالية كارثية.

يريد بعضهم أن يجعل من مسألة الهجرة والأجانب سبباً في ذلك. لكن ليس هذا صحيحاً؛ فالأرقام والتاريخ ذاته يجعل من هذه المزاعم غير صحيحة. إن قبلنا بهذا المنطق، فعلى دول أوروبا أن تعوّضنا عن سنوات الاستعمار والحرمان والقمع التي فرضتها على أغلب بلدان العالم في أفريقيا وآسيا وغيرهما. هذا لا يُعقَل، وما يبدو لي عبثياً هو نسيان أنّ المهاجرين حملوا على عاتقهم إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من معمار وفلاحة وصناعة، كما شارك جنود من المغرب العربي وأفريقيا في حربَي فرنسا ضد ألمانيا والهند الصينية.

التفكير بهذه الطريقة، كما كتب منذ سنوات رجلٌ على العرب أن يترجموا ويقرؤوا له لِما يحمله من فكر إنساني شمولي، وهو الفرنسي اليهودي الطبيب الذي التزم بالقضيّة الجزائرية ثمّ الفلسطينية ثمّ الإنسانية الحقوقية، أعني إيريك هازان، صاحب منشورات "لا فبريك" اليوم. نعم، منذ سنوات، ما انفكّ إيريك هازان ينبّه إلى بوادر وقوع حرب أهليّة في فرنسا، فهو ليس من المتملّقين الكاذبين؛ أمثال برنار هنري ليفي الذي يرى قشّة التبن في عين غيره، ولا يرى عمود الخشب في عينه هو.

مثلاً، علينا قراءة كتابَي "يوميّات الحرب الأهلية" (2004) و"تبديل المالك، الحرب الأهلية تتواصل" (2007)، كي نفهم ما يقع حقّاً من سياسة إعلامية واقتصادية تحكمها مصالح لوبيّات وأشخاص تلعب ضدّ الشعوب والدول، وكيف أنّ السياسيّين مرتزقة في خدمة أصحاب النفوذ والمال. هذه ليست ترّهات أو أقاويل من نوع الجنون أو البارانويا عن نظريات المؤامرة، هي وقائع حقيقيّة موجودة لا يمكن التشكيك فيها.

وهذا ما وقع فعلاً مع "السترات الصّفراء"، ففي بداية الاحتجاجات، لاحظنا كيف حاول الإعلام التقليل من قيمتها وتحقير مطالبها والتشكيك في مصداقيتها والطعن في مشروعيتها. رأينا ذلك وشاهدنا بالعين المجرّدة كيف يشتغل المرتزقة من صحافيّين وخبراء ودجّالين، لكن تغيّرت الأمور بفضل المواقع الاجتماعية وبفضل صمود المحتجّين الحقيقيّين من "السترات الصّفراء"، فبالرغم من محاولة اختراق المحتجّين من قبل أقصى اليمين والمشاغبين واللصوص، تبقى "السترات الصّفراء" حركةً نبيلة بنت مطالبها على رغبة جامحة في التحرّر من اقتصاد السوق وهو الاسم الجديد للديكتاتورية والعبودية.

لهذا السبب، أقول وأكرّر أنّني مع "السترات الصّفراء" التي أعْتَبرُها حركةً ثوريّة جاءت لتتابع حركة الثورات العربيّة، وخاصّة ما يقع اليوم في تونس من تحوّلات غير مسبوقة في علاقة الشعب بالدين والتديّن والسلطة والتسلّط والفقر والتفقير والحرية والتحرّر.

هي حركة ديناميكية فاعلة، حركة تشبه ثورات القرن الثامن والتاسع عشر، والحركات الفكرية والمسلّحة التي أعادت تشكيل العالم منذ عصر الأنوار مروراً بالثورة الصناعية وحتّى الحروب الكبرى وبما فيها من فاشستية ونازية ودمار.

لكنّه ثمن الحرية، ثمن الحياة. كلّ هذا في خطاب "السترات الصّفراء"، كلّ هذا في الثقافة الشعبية الثورية الفرنسية، كلّ هذا في المستقبل الذي يطمح إليه المواطنون أيّاً كانوا في خضمّ وطن يكفل حقوقهم ويضمن لهم أبسط المرافق.

هي مطالب مادية، ولِمَ لا؟ البشر مادّة ولا يعيش البشر بالأفكار والأغنيات. هذه الأخيرة جميلة، لكن يجب ان تُترجم في أطباق الأكل وعلى الموائد وفي البطون. هو الحقّ في الحياة، تحديداً في حياة كريمة. وليس أصفر تلك السترات إلّا تعبيراً صارخاً عن الخطر المحدق بنا جميعاً إن تواصلت حالة التهميش والحيف والقتل بصمت. فشكرا للقمصان الصّفراء على فضح الأمور وكشف المستور عن الحقائق الخفيّة في فرنسا والمجتمعات الأوروبية من سياسة قمعية في خدمة الرأسمالية.


* كاتب وشاعر من تونس، يصدر له قريباً كتاب بعنوان "الخلاصة الوطنية: مقولات عن الثورة التونسية والربيع العربي، جانفي 2011 - ديسمبر 2018"، عن منشورات "رافاييل دي سيرتيس" في فرنسا

المساهمون