أقوى من المرض

أقوى من المرض

09 مارس 2020

(هاني حوراني)

+ الخط -
ينفر كثيرون، في العادة، من فكرة الوجود شخصيا على مدرّجات ملاعب كرة القدم في بلادنا. ومهما بلغ حبهم للعبة الأكثر شعبية في العالم، فإنهم يكتفون بمشاهدتها من خلف شاشة التلفزيون، لأن اعتباراتٍ أساسيةً تمنعهم من تحقيق رغبتهم في حضور المباريات حيةً على أرض الملعب، ذلك أن الفكرة السائدة أن هذه الملاعب تتحوّل، في مرحلةٍ ما، وعند احتدام التنافس، إلى بيئةٍ عنيفةٍ غير آمنة، وغالبا ما تقع اشتباكاتٌ بين أنصار كلا الفريقين، تستخدم فيها العصي وزجاجات الماء الفارغة، فينتهي الأمر بهم في المخافر أو في أقسام الطوارئ في المستشفيات. كما يرى بعضهم أن بيئة الملاعب لدينا خادشة للحياء، وغير مناسبة لاصطحاب الأطفال، نظراً لاستخدام جماهير الكرة، في ذروة انفعالهم، ألفاظاً غير لائقة. لذلك تخلو المدرّجات تماماً من الحضور النسائي، على غير ما يحدث بشكل طبيعي في بلاد الله الواسعة غير ملوثة التفكير، ذلك أن أجواء المباريات في بلادنا اقترنت في أذهاننا بالسلوكيات الشرسة والألفاظ النابية الفجّة والبلطجة والعدوانية والإقليمية البغيضة، وانعدام الروح الرياضية بالمطلق.
ولا يمكن، في أي حال، لوم أصحاب هذا الانطباع الذي تكرّس معزّزا بالتغطيات الإعلامية التي ترصد أحداث الشغب ومظاهر الفوضى المصاحبة لمجريات المباريات الكبرى، حيث يختلط فيها الحابل بالنابل، ولا يمكن لأحدٍ التمييز بين المشجع الحضاري، "المحب للعب الحلو" والفتوّات من المشاغبين الجهلة الحاضرين لغايات تبادل أقذع الشتائم وإحداث الفتنة وإثارة الشغب وإفساد الأجواء الرياضية التي ينبغي أن تحمل قيما إنسانية جميلة، أهمها المحبة والخير والجمال، بل تعمل بشكلٍ مسيّس أحيانا على بث روح الضغينة والكراهية، وتشويه نفوس الصغار المعرّضين بسهولة لهذه التأثيرات السلبية.
ولكن مشهدا بالغ الجمال، جرت أحداثه أخيرا في عمّان، جعل الفكرة النمطية عن مشجعي كرة القدم، في العموم، قابلة للتغيير. ففي مبادرة إنسانية جميلة، تجمهر شبّان من رابطة مشجعي فريق الوحدات تحت شرفة المشجّع محمد عابورة، وهو زميل لهم يبلغ ستة عشر عاما، تم تشخيصه أخيرا بمرض السرطان. مشهد إنساني حميم، يبعث على القشعريرة لفرط جماله، طاقة هائلة مشحونه بالحب والأمل اكتظت في شارع الفتى المريض الذي خرج محييا الرفاق الأوفياء، شاكرا لهم وقفتهم التضامنية المدهشة، الجديرة بالالتفات إعلاميا لما تعزّزه في نفوس الناشئة من قيم إيجابية. وإذ يؤكد الخطاب الرسمي على أهمية تمكين الشباب، والرهان عليهم في خطة النهضة، إلا أنه يفتقر آليات التواصل المؤثر، فيعمد إلى إقامة المحاضرات وورشات العمل النظرية التي لا طائل منها.
توافد الشباب إلى بيت رفيقهم، وانطلاق تلك الهتافات العفوية الصادقة من حناجرهم التي قالت له أنت أقوى من المرض أكثر جدوى من عشرات المحاضرات التي تجري في قاعات الفنادق الفارهة، وهي درس عملي في الحب والعطاء، قدّمه أولئك الفتية بدون فذلكة أو تنظير. التضامن مع عذابات الآخرين، والإحساس بهم، فكرة نبيلة، لا بد من تعزيزها. وكم كانت ستبدو أوسع تأثيرا، لو توجّه هؤلاء إلى مركز الحسين للسرطان، حيث يحتاج مرضى متعبون فيه لمساتٍ إنسانية كهذه، تخفف عنهم الألم واليأس والخوف، وتبث في أرواحهم روح العزيمة والإصرار والأمل والرغبة في الحياة.
لماذا لا تصبح هتافات التشجيع هذه تقليدا، وطقس فرح يغمر الأجساد الضعيفة التي أرهقها الكيماوي، يسري في أوردتها سمّا لا مناص منه. أوجاع كبرى لن يخفف من أثرها سوى الإحساس بوقفة الآخرين التضامنية الصادقة. عندها فقط سوف يحرزون الأهداف، ويهزون شباك مرمى الحياة بكل القوة الممكنة على هدير أصوات الأحبة من المشجعين المحرّضين على الحب والحياة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.