أزمة الجنوب التونسي: نار ليبيا تخرق الحدود

12 فبراير 2015
من تظاهرة ضد ضريبة الحدود في بن غردان (الأناضول)
+ الخط -

لم يكن رئيس الوزراء التونسي الحبيب الصيد يتوقع أن يكون أول حصاد لحكومته، وهي تفتتح أسبوعها الأول في السلطة التنفيذية التونسية، بقتل أحد الشبان برصاص الحرس وسقوط عدد من الجرحى في مواجهات عنيفة اندلعت قبل يومين بمدينتي الذهيبة وبن غردان اللتين تقعان في الجنوب، على الحدود مع ليبيا.

أحداث هزّت المجتمع التونسي، ودفعت بالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني إلى إدانة ما تم وصفه بـ"الاستخدام المفرط للعنف"، من قبل وزارة الداخلية. هكذا وجدت الحكومة نفسها محشورة في زاوية ضيقة جداً، إذ لم يساندها في ما حصل أحد، بما في ذلك الأحزاب التي اشتركت في تشكيل الحكومة. تُعتبر مدينتا "الذهيبة" و"بن غردان" من بين المناطق المهمّشة والخالية من جهود تنموية جادة ومنتجة. ولهذا السبب اعتمد سكانها على العيش من شبكات التهريب والتجارة الموازية. فالآلاف من الشباب يتولون تهريب البترول من داخل ليبيا وبيعه بالتقسيط على الطرقات، وهو ما جعل ثلث محطات بيع البنزين تضطر للإغلاق أو استعمال النفط المهرّب. كما يوجد آلاف آخرون من الشباب يهرّبون كميات ضخمة من البضائع الأساسية المدعومة من الدولة التونسية إلى التراب الليبي، مقابل استيراد غير قانوني لأنواع مختلفة من البضائع الموجودة بالسوق الليبية بأسعار أرخص، ودون دفع ضرائب.

لقد عانت الحكومات المتلاحقة منذ الثورة من هذا النزيف الذي تسببه عمليات التهريب واسعة النطاق. بناءً عليه، قررت حكومة مهدي جمعة فرض جملة من الضرائب، ومن بينها إتاوة على جميع المسافرين الأجانب تتمثل في شراء طابع جبائي عند دخول التراب التونسي. وتم تطبيق هذا الإجراء على الجميع بمَن في ذلك الليبيون. وهو ما أزعج هؤلاء بحكم سفرهم الدائم في اتجاه تونس. وقد أدى ذلك أخيراً إلى إجراء أحادي بغلق المعبر الحدودي من قبل الليبيين، ما انعكس مباشرة على أوضاع سكان المدن التونسية المجاورة، ووفر مناخاً ملائماً للتحركات الاحتجاجية الأخيرة. في هذا السياق، برز بُعد سياسي هام. إذ أكد الأمين العام لحزب البناء المنشق عن حركة النهضة، رياض الشعيبي، لـ"العربي الجديد"، أن أعضاء الوفد الليبي الذي شارك في المفاوضات الأخيرة مع عضوين من البرلمان التونسي قد اعتبر أن القرار الذي بمقتضاه يدفع كل تونسي يدخل ليبيا إتاوة، هو من باب "المعاملة بالمثل".

وأضاف الشعيبي أن هذه التطورات تأتي في سياق عدم وجود أي علاقة بين الجهات الرسمية التونسية وبين "المؤتمر العام" (مجلس النواب الليبي المنتهية ولايته) بكل مكوناته، من تحالف "فجر ليبيا" وغير ذلك من القوى والهياكل الفاعلة على أرض الواقع. ومما أشار إليه الشعيبي أن رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، قد استقبل قبل فترة وفداً عن مدينة طبرق الليبية (أقصى الشرق)، وكان من بين أعضائه رئيس حزب تحالف القوى الوطنية، محمود جبريل، المعارض لحكومة عمر الحاسي المنبثقة عن "المؤتمر العام"، وهو ما اعتبرته جماعة "المؤتمر" وفجر ليبيا انحيازاً تونسياً لطرف ليبي على حساب الطرف الآخر. ومما يؤكد ذلك، بحسب اعتقاد الشعيبي، أن الجهات الرسمية كانت غائبة تماماً في المفاوضات الأخيرة الخاصة بالمعبر، حيث اكتفت وزارة الداخلية التونسية بالتنسيق مع عضوين في مجلس النواب، ولم يكلّف أي مسؤول أمني أو سياسي للمشاركة في هذه المحادثات التي مثّلها من الطرف الليبي رئيس بلدية زوارة والمسؤول الأمني الرئيسي عن المعبر الحدودي.

ويرى رئيس حزب البناء أن المطلوب من تونس هو اتخاذ المسافة نفسها من جميع الأطراف المتنازعة في ليبيا، مع مراعاة مصالح تونس، والأخذ بالاعتبار أن القوات التابعة للمؤتمر العام وفجر ليبيا هي التي تسيطر على البوابة الحدودية مع تونس. كما لاحظ بأن المجموعات التي توصف بالإرهابية داخل ليبيا ليس لها أي حضور في المناطق الغربية من ليبيا، مثل أنصار الشريعة وغيرها، وإنما وجودها يتمركز بالأساس في المنطقة الشرقية البعيدة عن تونس، وهو ما يفسر عدم تسجيل أية حوادث "إرهابية" على الحدود مع تونس.

يُفهم من هذه المعطيات أن أساس الأزمة يكمن في الأزمة التي ولّدتها مسألة الأتاوى والضرائب التي فرضتها السلطات التونسية على الحركة العابرة للحدود مع ليبيا، فضلاً عن وجود أطراف ليبية من مصلحتها الضغط على الجهات التونسية بهدف دفعها نحو إعادة تطبيع الوضع الحدودي من خلال تعديل الموقف الرسمي، وذلك بعدم الاعتراف حصراً بمجلس نواب طبرق، والتعامل مع الأطراف المحسوبة على حكومة الحاسي والمؤتمر العام الممسكة بزمام الأمور على الحدود مع تونس.

في هذا السياق، يؤكد الناشط الحقوقي مصطفى عبد الكبير، لـ"العربي الجديد"، الذي أدار مفاوضات عديدة مع الجهات الليبية حول ملفات معقدة، أن البُعد السياسي قائم وموجود في الأزمة الراهنة، ويعود ذلك، حسب رأيه، إلى غياب الدبلوماسية التونسية بعد عودة السفير التونسي السابق لدى ليبيا إثر استدعائه من قبل وزارة الخارجية، وفقدان أي علاقة أو معرفة دقيقة بما يجري داخل ليبيا. واعتبر عبد الكبير أن إجراء فرض إتاوة على الليبيين كان إجراءً خاطئاً ولا جدوى اقتصادية منه، مؤكدا أن قوات "فجر ليبيا" وغيرها من القوى، هي "أمر واقع لا يمكن نكرانه أو القفز فوقه". ويعتقد مصطفى عبد الكبير بأن تونس مدعوة إلى أن يكون لها "حضور قوي وفاعل داخل ليبيا، وأن تكون لها علاقات ممتدة ومفتوحة مع الجميع، ما يمكّنها أن تضمن مصالحها وأن تكون مشاركاً فاعلاً وقوياً لحل الأزمة الليبية".

هكذا وجدت الحكومة التونسية نفسها ملسوعة من النيران الليبية، وهي مدعوة اليوم إلى مراجعة العديد من القرارات التي صدرت في المرحلة السابقة، بحسب ما يرى كثيرون. ولن تكتفي حكومة الصيد بإلغاء الإتاوة ضد الليبيين وبقية مواطني دول المغرب العربي، كما جاء على لسان السبسي، وإنما الأهم هو احتمال الاضطرار لتعديل السياسة الخارجية تجاه "المؤتمر العام الليبي" وحكومة الحاسي المنبثقة عنه وقوات "فجر ليبيا" التي تأتمر بتعليماتهما، ذلك أن تونس قد تجد اليوم نفسها تحت رحمة قوات "فجر ليبيا"، التي، وإن لم تعلن عداءها للنظام في تونس، إلا أنها تسيطر على الحدود، وتشكك في حيادية الموقف التونسي من الأزمة الليبية، وتملك في كل لحظة القدرة على إيقاف الشريان الأساسي للحركة التجارية بين البلدين، خاصة في الجنوب التونسي، من خلال غلق البوابة الرابطة بين طرابلس وتونس.

المساهمون