أجمل الضحكات... حيث يكون الضحك ممنوعاً

10 فبراير 2015
(Getty)
+ الخط -
"وافقت الإدارة على طلبكم، لما يحمله من حسّ بالمسؤولية والتفاتة أخلاقية اتّجاه زميلكم، وتشجيعاً على هذه المبادرة، قرّرت المدرسة أن تقلّكم بواحد من باصاتها غداً بعد فرصة الساعة العاشرة، حيث التعزية في منطقة الأوزاعي".

بهذه الكلمات قطع الناظر صفّ الفيزياء، بعد أن مضى بضعة أيّام على وفاة والد زياد، زميلنا في الصف الثانوي الأوّل. 

خرج الناظر بعد إبلاغنا موافقة الإدارة وأخبرنا أنه سيرافقنا ليقوم بالواجب باسم المدرسة، هو أيضاً. فكان ذلك كافياً ليحوّل الصفّ إلى خلية هرج ومرج غير مسبوقة.

أتت أوّل ردّة فعل على لسان زهير، أحد طلاب الصفّ، صارخاً: "يعني طارت مسابقة الفرنسي"، المقررة في اليوم التالي بعد الفرصة.

حضرنا في صباح اليوم التالي، وفي داخل كلّ واحد منّا فرحة غير معلنة. فالجميع يتعامل مع زيارة التعزية على أنّها رحلة مدرسية.

كان ذلك في عام 1987، ومدرسة "الفرير" تقع على واحد من أخطر خطوط التماس في منطقة الحدث بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية، وعلى مقربة من معبر الكفاءات الذي يربط المنطقتين المقسومتين.

وضع البلاد الأمني، المتوتّر في تلك الفترة، بالإضافة إلى ظروف المدرسة التي يتنقّل أساتذتها وبعض تلامذتها بين "البيروتين"، جعل من الرحلات مستحيلة أو شبه معدومة. فجاءت هذه الزيارة بالنسبة إلينا بمثابة رحلة و"رمية من غير رامٍ".

أخرج رمزي، وهو زميل آخر، من حقيبته "دربكّة" (طبلة)، حشرها بين كتبه. داليا أحضرت معها علبة قطّعت في داخلها قالب حلوى من صناعة منزلية. وصار كلّ واحد يستعرض ما أحضره. كثرت الأصناف بين ترمس ولوز أخضر وفواكه وعصائر... فالجميع على أحرّ من الجمر ننتظر انتهاء الفرصة للصعود إلى الباص وانطلاقه.

دقّ جرس الفرصة، وتوجه طلابّ صفّنا برفقة الناظر إلى الباص. ما إن خرج الباص من حرم المدرسة حتى أخرج رمزي الطبلة من حقيبته وبدأ بالعزف، وخلال ثوانٍ قليلة امتزج صوت الطبلة بالتصفيق والغناء، والرقص حوّل الباص إلى "عرس محمول".

وقف الناظر في الأمام مستغرباً، وقبل شروعه في كيل الإهانات والوعظ، أبرمنا معه تسوية تقضي بأن نوقف كلّ مظاهر الفرح والترفيه قبيل الوصول إلى البيت المقصود.

دقائق قليلة تبيّن من خلالها أنّه هو الآخر له رغبة في وجود هذا الجوّ، وإن بدا غير معترف، إلا أنّه ظهر على وجهه ارتياحه وسعادته. لعلّه هو أيضاً يفتقد فسحة مشابهة غير متاحة في حياته. كذلك سائق الباص تواطأ معنا بأن خفّف من سرعته إلى حدّ ملحوظ واختار الطريق الأطول. فهو أيضاً متعطّش للمرح، وينتظر فرصة فرح يستغلّها.

وصلنا إلى مدخل الزاروب المؤدّي الى بيت جدّ زياد منهكين. وقفنا في صفّ لكي ندخل بشكل منظّم، لكنّ المشكلة أنّ الصفّ بأكمله أصيب بنوبة من الضحك غير عادية. ضحك متواصل، يصعب إيقافه، كلّما هدأ أحد أو دنا من الخروج من هذه الحالة، جاءت ضحكة آخر لتعيد موجة الضحك وتزيدها عند الجميع.

بعد نحو نصف ساعة من الضحك المترافق مع تأنيب متواصل من الناظر، استطعنا أن نسير بهدوء شكليّ... هدوء ينتظر قيد أنملة لتتحوّل زيارتنا إلى فضيحة.

لم يكن زياد من عائلة ميسورة، فوضعهم المادي سيئ للغاية. والكنبة القديمة جداً، واليتيمة الموجودة وحدها في الغرفة، وأمامها نحو 30 طالباً، بالإضافة إلى الناظر والسائق، ومعهم أهل الفقيد، كانت كافية لتفجّر موجات من الضحك لا تنتهي. مع ذلك، حبس كلّ واحد منّا ضحكته في فمه، ومضينا نقدّم واجب العزاء لزياد بوالده، من دون أن نتفوّه بكلمة، خوفاً من أن تنزلق الضحكات من أفواهنا وتجرّنا نحو المهزلة. لكنّ ألوان وجوهنا ودموع عيوننا لم تُخفِ موقفنا المخجل.

فالكنبة لا تتّسع لأكثر من ثلاثة أشخاص. أخذت المبادرة وجلست على طرفها. فصدر منها صوت صرير، كأنّ بعض مساميرها خرج من مكانه. جلس ماهر قربي، فصدر من الكنبة صوت آخر كأنّها تصرخ من الألم، وانحرفت قليلاً نحو اليسار. وقبل أن يرخي عصام بكلّ ثقله إلى جانب ماهر، ماجت الكنبة بنا ثمّ سقطت بمن عليها على الأرض متحوّلة إلى حطام.

لم نجد من يساعدنا على القيام عن الأرض، فنحن عاجزون عن الوقوف من فرط ضحكنا، وطلاب الصف كلهم غارقون في بحر من الضحك.

لم أنسَ منظر الناظر النادم على هذه الورطة، وهو يعتذر من أصحاب البيت.

ولا أذكر إن كنّا انتهينا من نوبات ضحك متتالية يومها.

وما زال الضحك بالنسبة إليّ نوبة أعيشها في أكثر الأماكن حظراً للضحك، فالضحك يكون أجمل، حيث يكون ممنوعاً

المساهمون