"فيسبوك" يصنعُ ذكرياتك

"فيسبوك" يصنعُ ذكرياتك

22 مايو 2015
+ الخط -
في بروفايل لها عن مؤسس مملكة فيسبوك، مارك زاكربورغ، بمناسبة اختيارها له شخصية السنة في 2010، ركزت مجلة التايم الأميركية على شغفه الكبير بعلم النفس، وقدرته على فهم أمزجة الناس وتقلباتهم الشعورية والوجدانية، وساقت المجلة شهادة لأمه، الطبيبة النفسية، عن "حساسية" ابنها اتجاه الناس، وحس الإنصات والتفهم لديه. "أشخاص كثيرون يستطيعون تحرير البرامج المعلوماتية بكفاءةٍ، لا تقل عن كفاءة مارك، غير أن لا أحد منهم يضاهيه فهماً وسبراً لأغوار النفس الإنسانية"، تقول المجلة، موردة شهادة المعني بالأمر الذي قال للمجلة، باعتزاز "في الجامعة، كنت الأول في مادة علم النفس، إلى جانب تفوقي في علوم الحاسوب". 
جاء زاكربورغ بنظرة مغايرة لشبكات التواصل الاجتماعي التي كانت في بداياتها ساعتها، نظرة ثورية تماماً في التواصل وتنظيم حركة الأحاديث والتبادلات والمشاركات بين الناس في عالم الإنترنت. نظرة اعتمد فيها الشاب "الحكيم" على إعادة تعريف مبدأ التصنيف الاجتماعي (folksonomy)، (من كلمة folk الإنجليزية "عامة الناس")، وهو تصنيف الناس بأنفسهم وبشكل حر لما يحبون متابعته من مواضيع وشؤون، حسب ميولهم وأذواقهم الخاصة.

مؤسس إمبراطورية "فيسبوك" زاد حبة على هذا المبدأ، ناهلا من معارفه في علم النفس وخبرته بأحوال الناس وإبداعه في تحرير البرامج المعلوماتية، واعتبر أن "الجماهير لا تلقي بالا لتنظيم وتصنيف صورها في ألبومات، بقدر ما تهتم بمعرفة من يوجد فيها. هكذا ينظر الناس للعالم". فكرة تنظيم المواضيع في ملفات والصور في ألبومات، وإعطاء ألقاب لمجموعات الدردشة وغيرها من دون الارتكاز على المعارف والأقارب وأولي الرحم، وبالتركيز على اتّباع مسارات المواضيع وأسماء المجموعات، لا مسارات الأشخاص فكرة جافة، ولا إبداع فيها في نظر هذا الشاب الألمعي.

بالنسبة له الذي سيجعل الناس يقبلون على التواصل بوتيرة أقوى وفضول أكبر ولعدد ساعات أطول هو أخبار الأحياء، الناس بشحمهم ولحمهم، البشر الذي يغضبون ويفرحون ويتزوجون ويلدون ويحققون إنجازات وتفجعهم جائحات ويحققون انتصارات، ويلتقطون صور، ويتعرضون لمواقف أليمة وطريفة وغريبة، ويبدعون ويرسمون ويكتبون، ويشكلون العالم بكياناتهم، ويصنعون رأيا عاماً، صغر شأنه أو كبر، ويتعرضون لكل ما تجود به الحياة من أشكال عيش التجربة الإنسانية التي تستحق التدوين والحفظ. إنه كتاب الحياة، كتاب كل هؤلاء الأشخاص، ليكن "فيسبوك".

تدخل فيُشعرك (من الإشعار Notification) "فيسبوك" أن زميلك في العمل يَسِمُك (tags you) في صورة التقطت له مع "الممثل الفلاني"، أو "الوزير"، أو "المغنية الفلانية"، وصديقك الآخر يظهر في فيديو "يضربه البوليس أمام البرلمان "، وثالث يذكرك في "مقال " بالاسم، ورابع شارك القوم فيديو يظهر فيه "متوجعاً أو متوسلاً أو بملابس غريبة، أو في حال يرثى له"، وخامس يطلب أن تضيفه إلى دائرة معارفك على هذا الكوكب، لا يسعك، والحال هذه، إلا أن تتبع الإشعارات، وتشبع فضولك من أخبار الناس.

تقول شيريل سادنبورغ، المسؤولة المكلفة بتنفيذ المشاريع في "فيسبوك"، والساعد الأيمن للإمبراطور، "يتعلق الأمر بالانتقال من نظرية الحشود إلى نظرية الأصدقاء. لا يهم إن كان مائة ألف شخص يحبون زيداً، إذ يكفي أن تجد ثلاثة بقربك يحبون عمرو لتحبه بدورك".
اليوم، وبعد مسيرة مظفرة من الإنجازات المالية والإعلامية، وتحول مشروع الطالب الأميركي غريب الأطوار في جامعة هارفارد إلى أكبر سجل مفتوح، يؤرخ يوميات ملايين أوادم القرن الواحد والعشرين، ويحتفظ بكل شاردة وواردة عليهم، حذفوها أو استبقوها، يجرب اليوم فريق عمل هذا المشروع الاستبخاراتي والإعلامي الأسطوري بكل المقاييس، تجاوز حدود الجيل الثاني من الانترنت إلى ذلك الذي يليه واكتشاف إمكانات وآفاق تكنولوجيات الإنترنت عالي التفاعلية مع الإنسان (Semantic Web).

فقبل أسابيع، صار "فيسبوك" يُشعرك بأن لك ذكرى مهجورة، موقف عبرت عنه، صورة تختزن أشواقاً كثيرة، عبارة رسمتها على جدار أحدهم بالكوكب الأزرق، صرخة أطلقتها ضد الزمن الرديء في مجرة الإنترنت، أشعار آسرة علّقتها في جدار من تحب، وصداقات نسجتها بتواريخ متباينة، الفضول دائما يجعلك تتوق لمطاردة هذه الذكريات الشاردة، تتبع الإشعار، تسير في الصفحات إلى حيث يجرك، وها أنت أمام ذكراك المنسية بكتاب الحياة، وها هو السيد زاكربوغ، الشغوف بسبر أغوارك، يختار أي الذكريات أحق بالتذكر، وأيها أحق بالنسيان، ها هو يصنع ذكرياتك.
 
 
230F9728-6F81-4406-98CC-A52074E82B47
230F9728-6F81-4406-98CC-A52074E82B47
عصام واعيس (المغرب)
عصام واعيس (المغرب)