مأزق 220 فولت

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 08:15 (توقيت القدس)
أطفال في مخيم بريف إدلب الشمالي (5/2/2023 Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- قامت الحكومة السورية الانتقالية برفع أسعار الكهرباء والخبز بشكل كبير وفرض رسوم على الخدمات الحكومية، مما يعكس تحولاً من دعم المواطنين إلى معاملتهم كزبائن.
- يتطلب تحرير الاقتصاد تهيئة مناخات قانونية ومالية وأمنية مناسبة، وإلا فإن رفع الأسعار دون هذه التهيئة قد يؤدي إلى انفجار اجتماعي.
- العلاقة بين الاقتصاد والسياسة متكاملة، حيث أن التغيير في الأدوار الاقتصادية يمنح المواطنين حرية أكبر في التعبير عن آرائهم، مما قد يؤدي إلى انقسام المجتمع إذا استمرت الحكومة في تجاهل هذه الحقيقة.

حسناً فعلت الحكومة السورية الانتقالية، باختيار الطريق القصير لفعل ما عليها، والبدء بعملية التحول الاقتصادي من آخر حلقاتها. 
شكراً لها لأنها رفعت أسعار الكهرباء 6000%، خطوة أولى جيدة، ونسبة معقولة مبدئياً، ويجب أن تضاعفها بعد بضعة أشهر. وقد رفعت قبل بضعة أشهر أسعار الخبز 1000%، وبدأت تأخذ نسبة من كلفة العلاج في المشافي الحكومية. وعليها قريباً أن تأخذ أجوراً على الدراسة في المدارس، وتوزّع على الطلاب رواتب المعلمين وكلفة بناء المدارس حتى التي بنيت بتبرّعات أهل الخير قبل قرن، أو من ميزانية الدولة قبل نصف قرن. 
وعليها أن تفرض رسوماً على عبور الطريق، والوقوف لتأمل الموج على الشاطئ. وتسعير أشياء أخرى من قبيل ختم ورقة، تدقيق هوية على حاجز، إشارة يد من شرطي على إشارة مرور معطّلة. بنزين سيارة الأمن المكلفة باعتقال مطلوب. 
بغض النظر عن أنها مضطرّة إلى فعل ذلك، وليس لديها خيار آخر، ومع الوقت ستتخلى عن هذا الدور مرغمةً لحكم الواقع والإمكانات. فبالأساس هذه كلها ليست من مهام الدولة، أو بشكل أدقّ، ليست من مهام هذا النوع من الدولة. 
والدول، بالطبع، أنواع. واحدة تدعم مواطنيها بالخبز والطاقة والتعليم والصحة، وواحدة تعاملهم كزبائن، فتأخذ منهم ثمن ما يحتاجونه من سلع وخدمات، وتربح منهم قليلاً فقط فوق سعر التكلفة. وللأسف، لكل نوع من هذين أعراض جانبية تأتي تلقائياً مع إعدادات المصنع، وهي من يحدّد شكل علاقة الطرف الآخر بها، ونظرته إليها. والطرف الآخر هو المواطن في النموذج الأول، والزبون في النموذج الثاني. 
وطالما أنها اختارت نموذج الزبون، فهي تعطي هذا الزبون حقّ الرد بالمثل، ومعاملتها بالطريقة نفسها، فهو أيضاً يمتلك سلعاً كثيرة ستحتاجها منه الدولة بشدة، وسيبيعها لها بسعر التكلفة مع هامش ربح معقول. وأكثر سلعتين ستحتاجهما منه في المدى المنظور: الطاعة وقوة العمل. ففي أي اقتصاد معقّد أو بسيط، ليست الطاقة ولا الغذاء السلعة الأهم، بل قوة العمل، وتحرير الاقتصادات عادة يبدأ من هذه السلعة، ويُرفع ثمنها تدريجياً مع خطوات التحرير، ولا يعني هذا أن تدفع الدولة رواتب عالية، فهي مجرّد زبون في سوق العمل، وفي السوق زبائن آخرون. مهمّتها أن تهيئ لهم المناخات، القانوني والمالي والأمني، ليعملوا ويستثمروا، ويشتروا قوة العمل بسعرها الحقيقي. وحين تفعل ذلك، يمكنها أن تحرّر سعر الكهرباء والخبز والتعليم وأي شيء آخر، أما إذا بدأت بالمعادلة بالمقلوب، فبأبسط بديهيات التنبؤ، ستكون أمام احتمال انفجار المجتمع عاجلاً أو آجلاً. 
مبدئياً، وقبل وقوع الخطر، نشكر الحكومة لأنها استعجلت، وحرّرتنا من قيد خبز الدولة وكهرباء الدولة ومدارس الدولة، ومن منّة الدعم. 
من يتصور أن بإمكانه إدارة اقتصاد حر من دون فضاء سياسي حر، سيصفعه الواقع قريباً جداً، فالاقتصاد والسياسة قدمان يمشي البلد إلى الأمام بتوازن إيقاع الخطو بينهما، ومن يمدّ قدماً من دون الأخرى فسينفسخ نصفين.  
والعلاقات تبنى على هذه القواعد: الأب الذي لا يصرف علينا نستطيع بسهولة أن ندخّن أمامه، ونقول له: لا، ونستطيع أن نرفع صوتنا في وجهه. نستطيع أن نخالفه الرأي بكل سهولة، وبكل شيء، حتى بالحكومة وبالحكم وبالحاكم نفسه. والأهم الأهم ـ كما هو العالم الواقعي للأسف ـ نستطيع التخلّي عنه بسهولة.

المساهمون