غزيو الشمال... نزوح عكسي جنوباً لانعدام مقومات الحياة

07 فبراير 2025
الحياة صعبة في ظل انعدام مقومات العيش في شمال غزة، 29 يناير 2025 (رمزي الكحلوت/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه سكان شمال قطاع غزة ومدينة غزة صعوبات كبيرة في العودة بسبب الدمار وانعدام مقومات الحياة الأساسية، حيث لا تتوفر المياه لنحو 80% من السكان، مما يجعل الحياة شبه مستحيلة.

- يروي السكان تجاربهم مع الدمار والعودة إلى الجنوب، معبرين عن حزنهم على منازلهم المدمرة، لكنهم يحتفظون بالأمل في إعادة بناء غزة واستعادة الحياة فيها.

- يفضل العديد من الأهالي البقاء في الجنوب بسبب توفر المياه والخدمات الأساسية، بينما يحاول البعض العودة إلى الشمال رغم التحديات الكبيرة.

لم يكن أمام بعض أهالي الشمال ومدينة غزة غير النزوح مجدداً نحو الجنوب في ظل الدمار الكبير في مناطق سكنهم الأصلية وانعدام مقومات الحياة، على أمل أن يتمكنوا من العودة قريباً 

أجبرت الظروف الصعبة وغياب مقومات الحياة في محافظتي غزة والشمال آلاف النازحين العائدين بعد بدء سريان وقف إطلاق النار في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، على إكمال رحلة النزوح في جنوب القطاع إلى حين توفر مأوى ومصادر مياه تمكنهم من العيش في مكان النشأة ومسقط الرأس. وهؤلاء المغادرون غلب عليهم الحزن والأسى بعدما اختاروا العودة إلى مناطق سكنهم التي هجروا منها قسراً، لكن الواقع الصادم فاق قدرتهم على الصمود أو تحمل الحياة في بيئة مدمرة بالكامل، تحتاج إلى معدات ثقيلة لتهيئة المكان، وإلى كرفانات يتلكأ الاحتلال في إدخالها، بالإضافة إلى عدم وصول المياه لنحو 80% من شمال القطاع. كلها عوامل جعلت الحياة شبه مستحيلة بالنسبة لكثيرين، يضاف إليها انعدام القدرة المادية لإنشاء خيام أو إصلاح أجزاء من بيوتهم المدمرة. وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن أكثر من 545 ألف نازح فلسطيني عادوا إلى شمال قطاع غزة خلال الأسبوع الماضي، بعد اتفاق لوقف إطلاق النار أنهى إبادة ارتكبتها إسرائيل على مدى نحو أكثر من 15 شهراً. وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، في مؤتمر صحافي، إن أكثر من 36 ألف فلسطيني انتقلوا من الشمال إلى جنوب قطاع غزة، لكن التقديرات المحلية تقول إنّ أعداد العائدين أكبر وتزيد مع الوقت.

حسرة على الأنقاض

أشرف زهد، وهو من سكان مخيم جباليا الذي تعرض لدمار هائل، يقول وهو يقف على شارع الرشيد الساحلي محاولاً إيجاد وسيلة مواصلات تنقله إلى جنوب القطاع: "جئت من منطقة المواصي في خانيونس إلى مخيم جباليا بعد خمسة عشر شهراً من النزوح. تحسرت على ركام منزلنا وعلى حالنا وعلى مخيمنا الذي عشنا فيه طيلة حياتنا، وها أنا أعود إلى خيمتي في جنوب القطاع لعدم وجود بديل عنها". يضيف في حديث لـ"العربي الجديد": "عدم وجود مياه في المخيم هو أحد الأسباب التي دفعتني لعدم العودة. أطفالي يحتاجون إلى المياه، واستأجرت عائلتي هناك بيتاً بكلفة باهظة تصل إلى قرابة 800 دولار شهرياً على الطابق الخامس، ويعانون لتعبئة المياه عبر نقل غالونات المياه، ولا أستطيع تحمل هذه المعاناة، علماً أن المياه متوفرة في منطقة المواصي".

أما أبو أحمد، الذي كان يسير على الطريق الساحلي بالقرب من تبة النويري الواقعة غرب مخيم النصيرات، فقد جاء للمرة الثالثة لإلقاء نظرة على منزله. يقف عاجزاً أمام ركام هائل لا يستطيع بأدوات بسيطة التعامل معه، فحسم أمره أخيراً وقرر الرجوع إلى خيمته في جنوب القطاع، وعن ذلك، يقول لـ"العربي الجديد": "نتوق للسكن إلى جوار منازلنا، لكن الدمار كبير ولا يوجد متر واحد يمكن العيش فيه. رأيت البيت وكأنني أقرأ الفاتحة على إنسان ميت. ها أنا أعود لاستكمال حياة الخيام، لكنني مؤمن وعلى يقين بأن غزة ستنهض وستعود إليها الحياة وسنعود إلى بيوتتا". 
إلى الغرب من بيت لاهيا، يقع منزل محمد سليمان العطار. كان من أوائل العائدين إلى منطقته محاولاً استصلاح أي جزء من بيته المدمر أو نصب خيمة، لكن ذلك كان صعباً، كما أن عدم توفر المياه لم يشجعه على البقاء. يقول لـ"العربي الجديد"، بينما يحمل أسطوانة غاز عائداً بها إلى جنوب القطاع: "وجدت بيتي مدمراً بالكامل والمنطقة بلا أي معالم للحياة. بالتالي من الصعب العيش هكذا، حتى لو كنا نحب بيوتنا. ما لم يشجعنا أيضاً غياب المياه، علماً أن المياه أساس الحياة. حتى لو كان البيت سليماً لكن بلا مقومات، تصير الحياة مستحيلة". 

مستمرون في العودة إلى شمال قطاع غزة، 5 فبراير 2025 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
مستمرون في العودة إلى شمال قطاع غزة، 5 فبراير 2025 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)

وكان العطار، كغيره من الأهالي، ينتظر بفارغ الصبر لحظة العودة إلى شمال القطاع، ورسم صورة في مخيلته لشكل الحياة مع الدمار الذي خلفه جيش الاحتلال، بعدما جعل الشمال منطقة منكوبة. لكن ما وجده على الأرض كان أصعب من الصور بكثير، يقول: "الوضع كارثي بكل تفاصيله. البيوت وآبار المياه مدمرة والأراضي الزراعية مجرفة. لا يمكن السير على الطرقات ولا يوجد طعام. بالتالي، الأمر يحتاج فترة طويلة".
ويفضل آلاف الأهالي، خصوصاً الذين يعيشون في خيام جنوب القطاع، العودة إلى الجنوب بشكل مؤقت نتيجة توفر المياه ونقاط شحن البطاريات والهواتف وانتشار مدارس تعليمية رسمية وخاصة وتوفر الإنترنت بجودة أعلى، الأمر الذي يبقيهم على تواصل دائم، على العكس من الحياة الحالية في شمال القطاع التي تغرق في ظلام دامس ولا تتوفر فيها تلك المقومات، إلى حين تحسن الأوضاع فيها. في المقابل، استطاع مئات الآلاف من العائدين إيجاد أماكن أو استئجار بيوت أو استصلاح غرف في منازلهم والعيش بأدنى مقومات الحياة، على أمل أن تتحسن الأمور مع الحديث عن قرب إدخال معدات ثقيلة وخيام وبيوت متنقلة يمكنها تحسين حياتهم، بعد إبادة جماعية دمرت كل شيء بغزة.

ركام في كل مكان

اشترى خالد نبهان خيمة ووضعها إلى جانب ركام منزله الواقع في حي الصفطاوي، شمال مدينة غزة، لكنه لم يستطع تهيئة مكان لنصبها في ظل انتشار الركام على كامل الأرض المحيطة به، ولحاجته إلى جرافات ومعدات ثقيلة لتجريفها وتهيئة المكان. يقول لـ"العربي الجديد" عن محاولته للعيش: "حضرت مجموعة من الأقارب وجلبنا أدوات حفر يدوية وبدائية، لكن وجدنا أعمدة إسمنتية وحجارة كبيرة لم نستطع رفعها. بالتالي، وقفنا عاجزين عن إمكانية تهيئة المكان". يضيف: "ما شجعني على محاولة نقل خيمتي من جنوب القطاع إلى شماله هو قيام أحد الجيران بتشغيل بئر مياه وهذا يعني حياة لنا، لكن الواقع الصادم كان أكبر من أزمة المياه أيضاً". يتابع: "لا توجد أي مقومات للحياة، كالمياه والطعام والإيواء. بالتالي، سأستمر بالعيش فترة إضافية في جنوب القطاع لأن هناك مخابز وحياة وأسواقاً وتعليماً وإنترنت وصيانة للشوارع، أي أنها قطعت شوطاً في محاولة النهوض بعد الحرب". ويقول وهو يحزم حقائب العودة بخيبة أمل: "خرجت من دون نتيجة. على مدار يومين، نمت عند الأقارب وشعرت وكأنني تائه. لا يوجد من يتجاوب معنا من المعنيين. عندما نجد مأوى سنفكر بالعودة من جديد". 
"نرجع وين (أين)، وليش (لماذا) نرجع؟"، تتساءل رشا حسونة، مضيفة: "بيوتنا دمرت ومستقبلنا ضائع وحياتنا انتهت. هل من المنطق أن أذهب إلى غزة وألقى في الشارع؟". وتقول لـ"العربي الجديد": "خرجت من غزة بقطعتي ملابس من بيتي ولملمت نفسي بأدنى مقومات الحياة من احتياجاتي، واليوم كيف سأعود؟ عندما أتذكر الأشهر الماضية التي هدتنا في الجنوب ونحن نركض لتعبئة غالونات المياه والشوادر ودورة المياه. لا أريد أن أعيد التجربة نفسها في الشمال وأتسول إلى العالم لتوفير مأوى واحتياجات". تتابع: "فقدت كل شيء ولست مستعدة لإعادة التجربة وترك ما بنيته هنا في الجنوب لأجل الرجوع لركام وتشرد جديد".

المساهمون