غزة القديمة... إجرام الاحتلال لم يرحم الذكريات والتاريخ

14 يناير 2025
دمار هائل طاول المسجد العمري، 4 يوليو 2024 (عمر القطاع/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعرضت البلدة القديمة في غزة لدمار واسع بسبب القصف الإسرائيلي في ديسمبر 2023، مستهدفة مناطق مثل حي الشجاعية وحي الدرج، مما أدى إلى تدمير معالم تاريخية مثل المسجد العمري.
- شملت الغارات متحف قصر الباشا وحمام السمرة وسوق القيسارية، مما حول المنطقة إلى "مدينة أشباح" بعد نزوح السكان وتدمير المعالم الأثرية.
- أظهر سكان البلدة صموداً وتحدياً، حيث عادوا إلى منازلهم ومحالهم التجارية، مؤكدين تمسكهم بأرضهم وهويتهم التاريخية، معبرين عن أملهم في إعادة إعمار المنطقة.

لم يستثنِ جيش الاحتلال الإسرائيلي المعالم التاريخية في قطاع غزة من القصف والتدمير المتكرر، وطاولت حرب الإبادة معظم معالم البلدة القديمة في مدينة غزة، التي تضررت غالبية منازلها.

اختفت ملامح الحياة التي اعتاد عليها قاطنو المنطقة القديمة الواقعة في وسط مدينة غزة، ولم يعد هناك سوى أكوام من الحجارة المتناثرة في كل حاراتها، وباتت معالمها التاريخية أثراً بعد عين بفعل الصواريخ الحربية الإسرائيلية التي انهالت عليها طوال أشهر العدوان المتواصل.
في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2023، نفذ جيش الاحتلال عمليته العسكرية الأولى التي بدأها من حي الشجاعية (شرق)، مروراً بحي الدرج، حيث تقع المنطقة القديمة، التي تُعرف شعبياً باسم "البلدة القديمة"، وكانت تغص بالمعالم والبيوت الأثرية والتاريخية، قبل أن يضطر سكانها إلى مغادرتها قسراً، ثم أخذت طائرات الاحتلال تُلقي صواريخها الثقيلة عليها.
غزة القديمة واحدة من أقدم المناطق في القطاع، وتضم قرابة 280 بناء أثرياً، من بينها 146 بيتاً أثرياً، و15 معلماً أثرياً، ويرجع تاريخ بناء بعضها إلى عصر الدولتين المملوكية والعثمانية. 
وشنّت طائرات الاحتلال الحربية سلسلة غارات طاولت المسجد العمري الواقع في حي الدرج، ما أدى إلى انهيار الأجزاء الشمالية منه، فيما تهاوت بعض المنازل المجاورة له، وتضرر عدد آخر من المنازل.
ويُعدّ المسجد العمري من أقدم وأعرق مساجد القطاع، وثالث أكبر مسجد في فلسطين كلها، وتبلغ مساحته 4100 متر مربع، ويضم 38 عموداً من الرخام، إضافة إلى أسلوب البناء الذي يعكس جمال الفن المعماري القديم. 
يقول الفلسطيني، طارق هنية، الذي يقطن إلى جوار المسجد العمري، لـ"العربي الجديد": "دمّر الاحتلال أجزاء كبيرة من الجهة الشمالية للمسجد خلال اقتحامه المنطقة في شهر ديسمبر 2023، والذي استمر نحو 15 يوماً، ومن بينها مكتبة المسجد، وبعد انتهاء العملية العسكرية، عدت لتفقد المسجد ومنزلي، فكان المشهد قاسياً، وأصابتني حالة من الصدمة من حجم الدمار الذي لحق بالمسجد العمري والأبنية الأثرية المحيطة به، حتى مأذنته العالية. كأن زلزالاً ضرب المنطقة، فقد تهاوت جدران المنازل القديمة، وأخرى أصابها ضرر جزئي".

تكررت غارات الاحتلال على المسجد العمري الواقع في حي الدرج

يضيف هنية: "بعد الحملة العسكرية للاحتلال أصبحت الحياة صعبة في المنطقة التي هجرها غالبية السكان، وبات المسجد شبه فارغ من المصلين، فاختفت تفاصيل الحياة المعتادة. في شهر إبريل/ نيسان 2024، عاد الاحتلال لاقتحام المنطقة من جديد، وهجّر بقية سكانها قسراً، وأكمل ضربته القاسية للمسجد، فدمر أجزاء أكبر من أروقته والغرف الداخلية له، وتناثرت عشرات الكتب التاريخية التي تضمها مكتبة المسجد بين الركام".
شارع آخر كانت تفوح منه رائحة التاريخ، وكان يعج بالمواطنين والزوّار الذين يرتادون متحف قصر الباشا، قبل أن يطاول القصف الإسرائيلي المتحف، ويدمر أبنيته التي كانت تضم عشرات المقتنيات الأثرية، فيما تحوّل الشارع المؤدي إليه إلى رمال بعد تجريفه.
وتصف مديرة متحف قصر الباشا، ناريمان خلة، المنطقة بعد الاجتياح الإسرائيلي بأنها باتت "مدينة أشباح"، وأصبحت تخلو من الزوار والرواد، كما غادر غالبية سكانها. وتوضح لـ"العربي الجديد"، أن "الاحتلال جرّف المبنى الجنوبي للقصر خلال الاجتياح الأول لمنطقة حي الدرج، وذلك بالتزامن مع قصف المسجد العمري وسوق القيسارية، ولم يكتف بذلك، فجرّف خلال الاجتياح الثاني ساحة المتحف بالكامل، وكذلك المبنى الشمالي، إضافة إلى تدمير حمام السمرة، وما تبقى من البلدة القديمة".
يقطن الفلسطيني محمد عبد الحي في تلك المنطقة، ويقول إن الحياة تبدّلت تماماً، كما غابت حركة المواطنين الكثيفة، والكثير من المعالم والمنازل باتت ركاماً، وأصبح يصعب السير على الأقدام في المنطقة. يضيف لـ"العربي الجديد"، أنه عاد بعد نزوح طويل ليسكن فوق أنقاض بيته المدمر جزئياً، في رسالة تحدٍّ للاحتلال، وفي تمسّك بمنزله وأرضه، لكنه يفتقد إلى "لمّة الأصحاب والجيران".

ما تبقى من متحف قصر الباشا. 23 أكتوبر 2024 (مؤمن فايز/الأناضول)
ما تبقى من متحف قصر الباشا، 23 أكتوبر 2024 (مؤمن فايز/الأناضول)

وتضم المنطقة "قصر الباشا" الذي كان النموذج الوحيد للقصور في مدينة غزة، ويعود بناؤه إلى العصر المملوكي في زمن السلطان الظاهر بيبرس (1260-1277)، وقد تحوّل إلى متحف في عام 2010، وخضع لأعمال ترميم في عام 2015 أعادته إلى حالته الأصلية، ثم جرى إعادة ترميمه وتجديده في عام 2022.
ويؤكد عبد المجيد الطباطيبي (صاحب محل تجاري في سوق الزاوية الشعبي) أن اقتحام الاحتلال منطقة البلدة القديمة كان مخطاً وممنهجاً، وأنه لم يفاجأ من حجم الدمار الذي لحق بالمنطقة، بعد انسحاب جيش الاحتلال، وعودة السكان إلى منازلهم، لكن ذلك الدمار شكّل غصّة في قلبه.
ويقول الطباطيبي لـ"العربي الجديد": "تمثل البلدة القديمة شريان الحياة لسكانها الذين ولدوا وتربوا بين أزقتها، لذا كان وقع اقتحام الاحتلال لها صادماً. أجزاء كبيرة من سوق الزاوية تعرضت للقصف والدمار. لكننا عدنا بعد مغادرة قوات الاحتلال، وفتحنا ما تبقى من المحال بالسلع المتوفرة. الاحتلال يسعى لتدمير كل معلم أثري يثبت الهوية الفلسطينية في محاولة لكسر صمودنا وتمسّكنا بأرضنا، لكن هذا الأمر لن يتحقق".
ويُعتبر سوق الزاوية امتداداً تاريخياً لسوق القيسارية الأثري، الذي يعود تأسيسه إلى العصر المملوكي، ويُعرف حالياً باسم سوق الذهب، ويقع في أحد مداخله الرئيسية المسجد العمري. 

يجلس الفلسطيني أيمن السيد أمام منزله الواقع في أحد أزقة البلدة القديمة، ويقول لـ"العربي الجديد"، إنه ترعرع في هذه المنطقة التي ولد فيها، وإنها تمثل له الحياة والروح، وإنه اعتاد الصلاة في مسجد عثمان قشقار الأثري المجاور لمنزله، والذي دمره الاحتلال بالكامل خلال الحرب.
ويوضح السيد: "لا أستطيع العيش خارج هذه المنطقة، وحين دمّر الاحتلال المسجد والمنطقة شعرت بأن قلبي دُمر معهما، لكن لدي يقين بأنه سيمكننا إعادة إعمار المنطقة من جديد. كنت شاهداً على قصف الاحتلال لكنيسة برفيروس في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقد تناثرت الحجارة في كل مكان، وأصبحت أجزاء كبيرة من الكنيسة أكواماً من الركام، وارتقى خلالها 18 شهيداً من النازحين. رغم كل هذا الدمار، عاد الشعب لينهض ويعمر، ونعيش برفقة جيراننا في منازلنا القديمة التي أصاب الكثير منها الضرر".
يقلّب السيد ذاكرته، ويستعيد أيام الطفولة حين كان يرافق والدته إلى حمام السمرة التاريخي قبل أكثر من 50 عاماً، ويؤكد أنه استمر على هذا النهج طوال حياته، قبل أن يحرمه العدوان الإسرائيلي من ذلك، ويردد: "إن شاء الله ستعود تلك الأيام الحلوة". حمام السمرة الذي يقع في حي الزيتون، هو ثاني أكبر المعالم الأثرية في قطاع غزة بعد المسجد العمري، وأحد أهم المعالم المعمارية العثمانية في أراضي فلسطين التاريخية، ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع عشر الميلادي.

تحول حمام السمرة إلى كومة ركام. 5 يناير 2024 (فرانس برس)
تحول حمام السمرة إلى كومة ركام، 5 يناير 2024 (فرانس برس)

اضطر الفلسطيني محمد حجازي إلى النزوح من حي الدرج في البلدة القديمة قسراً خلال الاجتياح الإسرائيلي إلى حي الصبرة شرقي مدينة غزة، والذي لا يبعد كثيراً عن البلدة القديمة. ويقول لـ"العربي الجديد": "بعد انسحاب الاحتلال من المنطقة، عدت إلى منطقة سكني، وفوجئت من حجم الدمار الذي أصاب غالبية المواقع الأثرية، والتي أصبح بعضها عبارة عن أكوام من الحجارة".
ويشير حجازي إلى أن "الاحتلال لم يكتف باجتياح وتدمير المنطقة في المرة الأولى، وإنما عاود اجتياحها مرّة أخرى، ودمّر المزيد من المنازل والمعالم الأثرية. لكن الناس عادوا من جديد، ولا يزالون يقطنون فيما تبقى من البلدة القديمة، في رسالة تحدٍّ وصمود للاحتلال".
ورغم كل ما حل بالبلدة القديمة التاريخية من خراب ودمار، فإن الحياة دبّت فيها من جديد، فقد عادت غالبية المحال التجارية في سوق الزاوية لفتح أبوابها من جديد، وإن تقلّص عددها بفعل تدمير الكثير منها، وعاد السكان إلى ما تبقى من منازلهم في الحارات والشوارع والأزقة، في صورة تؤكّد مدى تمسك المواطنين بمناطقهم التي تحمل عبق التاريخ الفلسطيني.

المساهمون