الإعلان الدستوري وطبيعة الأشياء: عروبة وإسلام في كليهما

15 ابريل 2025
سوريون أكراد يتظاهرون ضد الإعلان الدستوري في الحسكة (14/3/2025 فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أثار الإعلان الدستوري الجديد في سوريا جدلاً حول الهوية، حيث اعترض الأكراد على وصف الدولة بـ"الجمهورية العربية السورية"، معتبرين ذلك إقصاءً لهويتهم، رغم مساهماتهم التاريخية في الثقافة العربية الإسلامية.

- نص الإعلان على أن دين رئيس الجمهورية يجب أن يكون الإسلام، مما أثار اعتراضات حول عدم قدرة غير المسلمين على الترشح، لكن يُعتبر هذا النص ضرورياً لضمان الشرعية الدينية في دولة ذات أغلبية مسلمة.

- لم يأتِ الإعلان بجديد في الهوية والدين، إذ تأثرت القوانين السورية تاريخياً بالتشريعات العثمانية والفرنسية، مع العودة للجذور الإسلامية لتحقيق نهضة قانونية واجتماعية.

وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع، في 13 مارس/ آذار 2025، إعلاناً دستورياً يُحدّد مدة المرحلة الانتقالية في البلاد بخمس سنوات، وانقسم السوريون حوله ما بين مؤيّد ومعارض، ولا سيّما حول المادّة الأولى التي وصفت الجمهورية السورية بالعربية، والمادّة الثالثة التي نصّت على أنّ دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع. وباعتباري مواطناً سورياً، أدلي هنا بشأن هاتين المادّتين بين بقية الدلاء.

بداية من الأكراد والهوية العربية، حيث اعترض كثيرون من الإخوة السوريين الأكراد على المادّة التي حدّدت اسم الدولة بـ"الجمهورية العربية السورية"، أي: أكّدت صفة العربية في اسم الدولة، ورأوا في ذلك نفياً لكرديّتهم، وتجاوزاً على حقّهم، وإكراهاً لهم في حمل هوية مغايرة.

الكردي عندما يتقبّل الهوية العربية بوصفها جزءاً من تاريخه الثقافي لا يعترف بتاريخه فقط، بل ينفتح على الغالبية العظمى من الشعب السوري

وهنا لا بدّ من الإشارة أولاً إلى تعرّض الشعب السوري في الستين سنة الأخيرة إلى ظلم لا يُجارى، وإذا كان العرب السوريون قد تعرّضوا لذلك كله تعرّضاً مفجعاً، فالأكراد السوريون تعرّضوا له تعرّضاً مضاعفاً، ظُلموا بوصفهم سوريين، ثمّ ظُلموا بوصفهم أكراداً. وليست هذه المطالعة في وارد تفصيل صور هذا الظلم اللئيم الذي عمّ وطمّ. وأمام هذه المحنة، فإنّ من واجب الدستور السوري أن يُسهم في إنصافهم، وردّ اعتبارهم، في دولة الحريات والمواطنة، وتمكينهم من حقوق المواطن في تجلياتها كافّة لا ينقص منها حق. ولذلك، نحن نتفهم حساسية الكردي حين يرفض كلمة "العربية" في وصف الدولة، بعد أن غدت كلمةً تنزّ منها تجربةٌ مريرة في ظل حكم البعث البائد، غير أنّ تحميل هذه الكلمة وزر الجريمة البعثية فيه نظر، فالأكراد في العراق حين حكمه "البعث" تعرّضوا لما تعرض له إخوانهم في سورية، علماً أن الجمهورية العراقية خلت من كلمة العربية.
عندما يقول الكردي: "أنا لستُ عربياً" فهو محقٌ من حيث نفي الانتساب العرقي، ولكنّه مخطئٌ من حيث نفي الانتساب الثقافي التاريخي، وهو عندما يصرُّ على هذا النفي يرفض ميراثاً غنياً ثرياً وافراً زاخراً، فالكردي الذي يرفض الهوية "العربية" ثقافياً يمزّق بيديه إهابه الأقرب إليه زمناً على مدار أكثر من 1400 سنة، ويحرم نفسه من مساهمته الحضارية في هذه المدّة التي هي من أهمّ المساهمات الثقافية العالمية! فما كتبه الكرد وأنجزوه باللغة الكردية على مدار تاريخهم لا يمكن مقارنته بما كتبوه بالعربية، لسببين:
الأول، لم يشعر الكردي في تاريخه الإسلامي بالتناقض بين هويته العرقية التي ينتمي إليها نسباً وهويته الثقافية الدينية التي ينتمي إليها محيطاً ومجالاً، بل كان بسعته وحصافته وانفتاحه يؤمن بهويته المركّبة ويفتخر بها. هذه الهوية التي تغتني في كلّ وصف جديد يُضاف إليها، كما يغتني الجناح في كلّ ريشة تنبت له. نقرأ في نهاية كتاب رحلة طه الكردي الباليساني في العراق وبلاد الشام والأناضول ومصر والحجاز، الذي انتهى منه سنة 1789م: "انتهى تحريره على يد محرّره الفقير طه بن يحيى بن الأمير سليمان بن الأمير محمد علي بيك، المأمومي الكردي اليمني، الشافعي مذهباً، والقادري طريقةً، والإبراهيمي ملةً، والمحمدي أمةً، والباليساني بلداً، والخشناوي عشيرةً، والشامي مهاجراً، والحمد لله أولاً وآخراً"، وما أغنى هذه الشخصية الكلاسيكية! وما أغزر هذه الهوية المركّبة المنصهرة في بوتقة واحدة! وهذه الشخصية كانت النموذج المعمّم في هذا الحوض الحضاري الذي يتلاقى فيه الكردي والعربي والفارسي والتركي إلخ، بل هي الهوية المركّبة لبلاد الشام/ سورية، التي تقع فيها الهوية العربية الإسلامية كاللون الأساس في اللوحة، ثمّ تأتي بقية اللوينات الأخرى فتمتزج به وتعطيها فرادتها وجمالها وبهاءها.
الثاني، أنّ اللغة العربية أسعفت الكردي بانضباطها معجماً ونحواً وصرفاً وفقهاً وإملاءً، وهو انضباطٌ سبق انضباط اللغة الكردية بأكثر من ألف عام، فأتاحت له بحبوحةً في الكتابة وبُلَهْنية في التأليف، بل كان هو نفسه أحد المساهمين في ضبط هذه اللغة وصقلها وارتقائها، إلى جانب الكتّاب الآخرين من الفرس والعرب والأمازيغ إلى آخر ما هنالك من قوميات.
كان الكتّاب والمؤلفون الكرد تاريخياً عرباً في الكتابة، عرباً في التذوّق الأدبي، عرباً في التبنّي الفكري والثقافي، عرباً في أسمائهم، والأمثلة أكثر من أن تُحصى أو أن تُستقصى، وحسبنا أن يُشار هنا إلى قاضي القضاة في مدينة دمشق أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلِّكان الذي يُنسب إلى قبيلة الزرزارية الكردية، مؤلف كتاب "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، وقد وصفه الإمام الذهبي بقوله: "كان بصيراً بالعربية، علّامة في الأدب"، ولذلك فنحن في كتابه هذا لا نقرأ تاريخ شخصيات يترجم لها فقط، بل نقرأ كنزاً أدبياً حقيقياً تتجلى فيه ذائقة ابن خلكان العالية في الأدب العربي
ويُشار أيضاً إلى نموذج آخر، شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي، المعروف اختصاراً باسم ابن الصلاح الذي ولد في شهرزور، ثمّ استقر بعد تنقلات عديدة في دمشق، وصار شيخ المدرسة الأشرفية، وهذا الرجل هو نقطة علّام في علوم الحديث النبوي، ومقدمة ابن الصلاح في مصطلح الحديث تضارع مقدمة ابن خلدون في علم الاجتماع أهميةً ومكانةً، وكان أحد شيوخ ابن خلكان، ويصفه في كتابه وفيات الأعيان بأنّه "من جلة مشايخ الأكراد المشار إليهم [...]، وأحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة"، وواضح هنا أنّ المقصود باللغة اللغة العربية.
المثال الأخير الذي لا أرتضي إغفاله فهو الملك أبو الفداء الحموي إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب الأيوبي، صاحب كتابي "المختصر في تاريخ البشر" و"تقويم البلدان"، وهذا المؤلِّف الكردي من أهمّ العقول الكردية نسباً، العربية كتابة وتفكيراً، والإنسانية توجّهاً، ولذلك عرفته أوروبا معرفةً ليست أقل من معرفة العرب به، إلى درجة أن شيخ المستشرقين الروس كراتشكوفسكي قال عن "تقويم البلدان": "إنّه لم يَفُقْه في الشهرة هناك، أي في أوروبا، إلا مصنفان في اللغة العربية بأجمعها: القرآن وألف ليلة وليلة".
هذه أمثلة لشخصيات كردية علمية عظيمة هي السلف الأقرب للعرب والأكراد معاً جنباً إلى جنب مع العلماء والشعراء الأكراد القلة ممن كتبوا باللغة الكردية والعربية، ولا نغفل هنا عن ذكر الحكّام الأكراد، وفي مقدّمتهم السلطان صلاح الدين وأولاده، والأسر والسلالات الكردية الحاكمة الأخرى، كالشداديين، والحسنويين، والمروانيين، التي كانت ترعى العلم والعلماء من كل الأعراق، كابن شداد، وعماد الدين الأصفهاني، والقاضي الفاضل، ومئات العلماء الآخرين، وتَكْفَلُهم وتموّل تآليفهم وأعمالهم العلمية العربية الإسلامية، ولو راجعنا أسماء أمراء هذه السلالات الكردية فسنجدها في معظمها أسماء عربية، مثل أسماء العلماء الأكراد المذكورين للتوّ، لاعتزازهم بالهوية العربية الإسلامية، وليس لأنّ موظّف النفوس البعثي كان يجبرهم عليها، أسماء من قبيل: المهلهل بن محمد، وأبو الفتاح محمد بن عناز، وظاهر بن هلال بن بدر، وأبو علي الحسين بن مروان، وأبو النصر أحمد بن مروان، وصلاح الدين بن يوسف بن نجم الدين بن أيوب، وعثمان بن صلاح الدين، وناصر الدين محمد بن سيف الدين... إلخ، وهكذا نرى أن العربية هي جزءٌ أصيل في الهوية الكردية، وليس مفتعلاً ولا طارئاً ولا عرضياً ولا استثنائياً. الطارئ والعرضي والاستثنائي هو الحالة المعاصرة المتنكّرة لهذا التاريخ الطويل الممتد لأكثر من ألف عام، ومن السهل هنا سرد مسوغات هذا التنكّر، والدفاع عنه بدافع القومية تارةً والإيديولوجيا تارةً أخرى، ولكنّها تظلّ مجرّد مسوغات لا تستوعب فداحة هذا التنكّر الذي يسلب من أمة كاملة تاريخها، ويحرمها منه، ويجهّلها به، تماماً كمن يهدم أساس بيته ليعمّر حيطانه وسقفه.
الكردي عندما يتقبّل الهوية العربية بوصفها جزءاً من تاريخه الثقافي لا يعترف بتاريخه فقط، بل ينفتح على الغالبية العظمى من الشعب السوري، وينفتح أكثر على ما يتيح له الانخراط في عالمٍ رحيب كعالمه الكردي نفسه، عالمٍ ممتد يعادل قارّة بأكملها، بما يحمله هذا الامتداد من إمكاناتٍ تشاركية وتفاعلية ثقافةً واجتماعاً واقتصاداً.

الفقه الإسلامي ظلّ في حالة تطوّر دائمة مُبدِياً مرونة واستجابة تفوق خيال هؤلاء المتشنجين من هذه المادّة الدستورية

دين رئيس الدولة الإسلام
ويعترض بعضهم على هذه المادّة بأنّ غير المسلم السوري لن يكون في مقدوره أن يترشّح للرئاسة، وهذا اعتراض مهمٌ ومُحقٌّ، ويخدش في المساواة التي نتطلع إليها، غير أنّنا في المقابل لا نستطيع أن نقفز على الواقع، ولا أن نتجاوزه، فنحن في دولةٍ أغلبية شعبها مسلم، ويجب مراعاة هذه الأغلبية لسبب جوهري، هو إضفاء الشرعية على مقام الرئاسة، فالدين الذي يدين به أغلبية أفراد الشعب ويؤمنون به يقول إنّ الإسلام هو أحد شروط صحة الولاية العامة، أي: رئاسة الدولة، وبدونه لا تصح هذه الولاية، ويفقد الرئيس شرعيته دينياً، فيصعب عليه قيادة البلاد، لأنّه لا يمتلك الشرعية في الضمير الديني لدى الغالبية، ولا يؤمنون بضرورة تقديم الطاعة والولاء له، ولكن عندما تخرج فتوى فقهية في المستقبل تسوّغ إمامة غير المسلم، ويقتنع بها عموم الناس فعند ذلك تصبح هذه المادّة الدستورية زائدة عن الحاجة، أما الآن فهي ضرورة، لأنّنا بحاجة إلى الشرعية، وبدونها لن تسير البلاد إلا فركحة.
وعلى سبيل الاستطراد: من شروط الولاية العامة في الرأي الفقهي التقليدي الذكورة أيضاً، وعليه لا تصح رئاسة المرأة، وهذا الحكم كان من المسلّمات الفقهية، ولكن في أكبر بلد إسلامي من حيث العدد، أي إندونيسيا، انتخب المسلمون لأول مرة في تاريخ البلاد ميجاواتي سوكارنو رئيسة للجمهورية سنة 2001، بعد أن مهّدت جمعية نهضة العلماء Nahdlatul) (Ulama في البلاد لذلك، وكانت هذه الجمعية قد خاطبت الشخصيات المشهورة من علماء المسلمين، وطلبت منهم إعطاء رأيهم في هذه المسألة، فجاءتهم بعض الأجوبة التي هي اجتهاد جديد في عالم الإسلام مجيزةً ذلك ( )، وكان قد سبقها إلى منصب رئاسة الوزراء الشيخة حسينة وخالدة ضياء في بنغلادش، وبي نظير بوتو في باكستان.

الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع
ومرّة أخرى، نقول بضرورة هذه المادّة الدستورية، لأنّها تعطي الشرعية لمجمل القانون السوري والقضاء السوري والمحاكم السورية، وبدونها تستنكف الكثرة الكاثرة من المواطنين السوريين عن الاعتراف بهذا القانون، ويتعاملون معه تعاملاً سلبياً، بل كان هذا حال سوريين كثيرين حتى بوجود هذه المادّة، لأنّهم عدّوها صورية، لذلك كانوا يلجأون إلى المشايخ ليحلوا لهم مشكلاتهم، وكانوا يقولون فيما بينهم: "خلّوا الشرع يحكم بيننا"، في تصريح واضح بأنّ القانون يمشي في سياق مختلف بالنسبة إليهم! ونحن بحاجة أكيدة لإزالة هذه الازدواجية التي لها آثار سلبية قوية عديدة، لم نبحث فيها ولم نلاحظها.
نريد أن يعترف الشعب بالقانون والقضاء والمحاكم، وأن يكون القانون ذا هيبة وحاكمية، وهذه المادّة تساعد على ذلك، أما التخوّف منها والتفجّع الذي نراه في أصوات بعضهم وهم يقولون: "سوف يرجعوننا إلى 1200 سنة مضت"! فمردّه إلى الجهل فقط، ولا شيء غير الجهل، فهم يتصوّرون الفقه الإسلامي مدونةً أُنجزت قبل 1200 سنة، ثم أُغلقت وطُويت، وأنَّ هذه المادّة الدستورية ستعيد تفعيل جسم محنّط تجاوز عمره الألف عام، ولا يدركون أنّ للفقه الإسلامي مسيرته المضطردة التي رافقت المجتمعات الإسلامية بل الدول الإسلامية منذ النشوء حتى هذه اللحظة، وأنّ الفقه الإسلامي ظلّ في حالة تطوّر دائمة مُبدِياً مرونة واستجابة تفوق خيال هؤلاء المتشنجين من هذه المادّة الدستورية، ولا سيما في عهد الدولة العثمانية التي غدت إمبراطورية، وظهرت فيها (القوانين نامة) لتغطية الحاجة إلى تنظيم الشؤون الإدارية، وحفظ الرعية من جور الحكام والولاة، وتحقيق الوحدة القضائية في أرجاء السلطنة، وقد انبثقت هذه القوانين من أصول التشريع الإسلامي ومقاصده، معتمدةً في الدرجة الأولى على الفتاوى الفقهية، ثمّ على الأوامر السلطانية التي تدخل تحت مبدأ (السياسة الشرعية) الذي يعطي ولي الأمر صلاحيات واسعة في سن التشريعات في سبيل تحقيق مصالح الناس المعتبرة، وتدبير شؤونهم بما يتفق مع الشريعة، ثمّ على العادات والأعراف على قاعدة:
والعُرف في الشرع له اعتبارُ.... لذا عليه الحُكم قد يُدارُ
بدأت هذه القوانين بالظهور سنة 882 هـ/ 1477م، مع "قانون نامة محمد الفاتح" الذي أشرف على كتابته الفقيه الحنفي ليث زادة التوقيعي، ثمّ توالى بعده "قانون نامة السلطان سليم الأول" الذي كان يقف وراءه شيخ الإسلام ابن كمال باشا، و"قانون نامة سليمان القانوني" الذي رعاه فقهياً شيخ الإسلام أبو السعود أفندي.
تعدّدت القوانين نامة، لأنّها كانت في حالة تطور دائم بحسب التوجيه الذي ختم به محمد الفاتح الباب الأول من قانون نامة عندما قال: "هذا ما ارتأينا من نظام أحوال السلطنة، وعلى أبنائنا الكرام إدامتها أو تعديلها لما هو أفضل". وقد ظهرت حركة ترجمة واسعة لنُسخ كثيرة من قوانين نامة العثمانية إلى مختلف اللغات الأوروبية، بين القرنين 16 و18 الميلاديين، فاستفاد منها الأوروبيون. وفي المقابل، استفادت السلطنة من التقنين الأوروبي، وتحديداً الفرنسي الذي قفز قفزةً عظيمة في عهد نابليون بونابرت، فاقتبست منه القوانين المتعلقة بالعقوبات والتجارة والأراضي، أما القانون المدني فحرصت السلطنة على أن يكون مستمداً بحذافيره من الشريعة الإسلامية على المذهب الحنفي، وسُمّي مجلة الأحكام العدلية التي ظهرت ما بين عامي 1869 و1876. وبعد استقلال سورية عن الدولة العثمانية، ظلت مجلة الأحكام العدلية القانون المدني إلى أن حدث انقلاب حسني الزعيم سنة 1949، فألغى العمل بها، ظانّاً أنّه يقوم بثورة تشريعية، كما أوحى له وزيره للعدل أسعد الكوراني، الذي كان يكنّ عداوة خاصة للمجلة ولنظام الأوقاف الذري، وخلال أربعة أشهر ونصف (إبريل/ نيسان ـــ أغسطس/ آب 1949) أصدر القوانين المدنية والجزائية، مستمداً إياها من القانون المصري ذي الأصل الفرنسي، ولأنّ الزعيم لم يستوعب خطورة ما قام به على مستوى تفاعل أفراد المجتمع مع هذا القانون واعترافهم بشرعيته، نصّت الجمعية التأسيسية التي أنيط بها وضع دستور للبلاد، بعد إطاحته وإعدامه، سنة 1949 على أنّ "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع".
والسوريون اليوم بحاجة إلى إعادة صياغة التجربة التاريخية الوطنية في الخطاب العام والمعاصر لتحقيق مصلحة تحرّرية، ومن جملة بنود هذه الصياغة إعادة بناء التشريع القانوني على أسسه ما قبل الاستعمارية، هذه الأسس التي كانت تراعي التطور الإنساني العام وتجاريه، وهذا شكل من أشكال المقاومة، وسبيل من سبل النهضة.
والخلاصة: لم يخترع الإعلان الدستوري هذه المواد، ولم يضف شيئاً جديداً، بل كانت موادَّ ثابتة راسخة في كلّ دساتير سورية المتعاقبة، ما خلا دستور 1930 إبّان الاحتلال الفرنسي، فلما زال أُعيدت هذه الموادّ، وظلّت ثابتة في الدساتير اللاحقة حتى لحظة الإعلان الدستوري الحالي الذي أثبتها كما أثبتتها الدساتير قبله.

المساهمون