مسح مئات العائلات من السجل المدني

05 ديسمبر 2024
مئات من عائلات غزة لم يبقَ منها فرد واحد (معز صالحي/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تأثير الحرب على العائلات: شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي حربًا مدمرة على غزة، مما أدى إلى إبادة 1410 عائلات وفقدان 5444 شخصًا، مع بقاء ناجٍ وحيد من 3463 عائلة، وفقًا لوزارة الصحة في غزة.

- قصص الناجين: تروي نور الغول وصابرين ماضي تجارب مروعة عن فقدان أفراد عائلاتهم في القصف الإسرائيلي، مما يعكس حجم المأساة التي عاشتها العائلات الفلسطينية.

- الأمل المفقود والمستقبل الغامض: تحولت أفراح العائلات إلى مآتم بسبب القصف، مما أثر على النسيج الاجتماعي والأسري في غزة وترك مستقبلًا غامضًا للناجين.

قضت الحرب الهمجية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة على مئات العائلات الممتدة في القطاع، كذلك قضت على أحلام وأمنيات كان أفرادها ينتظرون تحققها في المستقبل

مسح العدوان الإسرائيلي العديد من عائلات قطاع غزة من السجل المدني، وبعضها لم يبقَ منها أي ناجٍ، أو نجا فرد واحد ليكون شاهداً على المجازر البشعة التي ارتكبها الاحتلال عبر قصف البيوت على رؤوس ساكنيها، وقتل كل من فيها، بمن فيهم الأطفال والرضع وكبار السن والمرضى، لتتحول المنازل إلى قبور جماعية.
وحسب وزارة الصحة في قطاع غزة، فإن جيش الاحتلال ارتكب 7160 مجزرة بحق العائلات الفلسطينية في الفترة من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حتى مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وأبادت تلك المجازر نحو 1410 عائلات كان عدد أفرادها 5444 شخصاً، فيما يبلغ عدد العائلات التي لم يبقَ منها سوى ناجٍ وحيد نحو 3463 عائلة، بعد أن كان عدد أفرادها نحو 7934 فلسطينياً.
في فجر 21 نوفمبر 2023، لم تكن نور عدنان الغول (34 سنة) تدرك أن الهزة الأرضية التي شعرت بها، والثقل الذي أصبح فوقها ليس أغطية وضعت فوقها وهي نائمة، ولم تستوعب أن بيت شقيقة زوجها بمخيم النصيرات، الذي نزحت إليه مع أشقائها ووالديها وبعض شقيقاتها بإجمالي 48 فرداً، تعرض للقصف. لم تستطع الغول تحريك جسدها، وكانت محاصرة تحت الردم، ولم يردّ أي من أبنائها الذين كانوا معها في الغرفة عليها، وهم ليان (13 سنة) وعدنان (12 سنة) وآدم (9 سنوات) إضافة إلى أمها، وابنها عز الدين الذي نزل عند والده محمد عليان، وأعمامه.
تستعيد نور الغول، وهي الناجية الوحيدة من عائلتها، لـ "العربي الجديد" شريط الحدث الدامي، قائلة: "اعتقدت أن أولادي نائمين، لذا لم يسمعوا صوتي، وأمضيت الوقت حتى السادسة صباحاً بين الاستغفار والنوم القصير، ثم سمعت صوت أحدهم يصرخ: في أحد عايش؟ وخشيت أن يذهب، فصرخت: أنا هنا طلعوني. أزالوا الركام وخرجت، وأشرت إلى موضع نوم أطفالي، وعندما لم أشاهدهم رفضت الذهاب إلى المشفى إلا بعد الاطمئنان عليهم، لكن أحدهم أخبرني أنهم أخرجوا مصابين على قيد الحياة، فذهبت معتقدة أنهم أطفالي. وصلت الغول إلى المشفى فوجدته امتلأ بالجثامين، ثم بدأت التنقل بين وجوه الشهداء للتعرف إليهم. تعرفت إلى جثة ابني آدم، ثم جثة أمي، ثم باقي أفراد العائلة. كنت أتمنى أن أجد أحد أبنائي حيّاً، لكن الكل استشهدوا، وكان عددهم 37 شهيداً".
قبل المجزرة بيوم واحد، انشغل زوجها محمد الغول وإخوته بمساعدة زوج أختهم بعد قصف منزل شقيقه، وقد شاركوا بإزالة الركام وانتشال المصابين والشهداء، وعادوا في ساعة متأخرة، فاغتسلوا وتناولوا الطعام، وتفاجأت نور بمشاركة ابنها الأكبر عز الدين في المساعدة، وأن مخاوفه من الدماء زالت، وقد أخبرها أنه حمل "أشلاء شهداء بيده"، ومازحته قائلة: "بتطلع دكتور"، فقابلها بضحكة.
استشهد الأب عبد العزيز عليان (86 سنة)، والأم زينب الغول، واستشهد نجلهما محمود عليان وزوجته وأولادهما الأربعة، وأصغرهم رضيع لا يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، كذلك استشهد محمد عليان مع أولاده الأربعة، وأكبرهم عمره 14 سنة وأصغرهم ست سنوات، بينما أصيبت زوجته نور الغول، واستشهدت أمها التي نزحت معهم. واستشهد أيضاً يوسف عليان، ونجت زوجته وأولاده الذين لم يكونوا في البيت لحظة القصف. واستشهدت نسرين عليان مع نجليها، الصيدلي عصام عبد ربه وطفليه، والمهندس حسام الذي يعمل في شركة الاتصالات الفلسطينية، وطفله، واستشهدت بنات نسرين عليان، وهنّ إسراء وأفنان ومسك ورغد.

وضمت قائمة الشهداء جيهان عليان وزوجها خالد الحملاوي، وابنهما موسى وابنتهما لينا وزوجها وطفليها، يحيى ولين، واستشهد في المجزرة نفسها سارة وقسام وديما الحاج، والأخيرة استشهد معها زوجها وطفلهما الرضيع، بينما نجا من المجزرة الطبيب عبد اللطيف الحاج الذي كان على رأس عمله حين استهدف منزله، وأصيبت زوجته آية بكسور في عظام القفص الصدري، وأصيبت ابنتها، ونجا حفيدها عبد الرحمن (7 سنوات) الذي أصيب بكسور في الحوض، ونجت شقيقته آية (14 يوماً) التي قدر لها أن تخرج من تحت الردم حيّة، بعد أن أصيبت في الرأس.
ومنذ اندلاع حرب الإبادة، واشتداد القصف المدفعي والأحزمة النارية على كل مكان في مدينة غزة، نزحت عائلة ماضي المكونة من جدة وخمسة أشقاء وزوجاتهم وأولادهم، إضافة إلى شقيقة متزوجة، من حيّ الزيتون إلى مدينة دير البلح بمحافظة وسط قطاع غزة، حيث عاش أكثر من 25 فرداً في بيتٍ مكون من طابقين برفقة عائلات أخرى، وتشاركوا لقمة العيش. تجمعوا على مائدة ظهر الخامس من ديسمبر/ كانون الأول 2023، فداهمهم صاروخ إسرائيلي قتل نحو 45 فرداً من العائلات النازحة إلى المبنى في لحظات.
تروي صابرين ماضي الناجية من المجزرة، والتي تستكمل حالياً علاج طفلتها في الإمارات، لـ "العربي الجديد": "في يوم الفاجعة، أعدّت والدة زوجي أميرة طعام الغداء لأولادها وأحفادها، فتجمّع أبناؤها، أمير وعروسه، وأشقاؤه عبد الرحمن وأحمد ومحمد وأولادهم، وابنتها حليمة حول الطعام. كنت في الطابق العلوي مع بناتي وبعض النساء، وغادرت لإعداد الطعام لأولادي، وكان زوجي سهيل يصلح سيارته بجوار المبنى، ومعه ابني خليل (25 سنة) وخطيب ابنتي، وكانت بناتي، رهف وريم وحلا ولمى يساعدنني، ونزلت طفلتي لانا (9 سنوات) عند جدتها. عندها حدث الانفجار، ومن شدته قذفنا إلى خارج المبنى، فنجونا، واستشهدت لانا، ومعظم أفراد عائلة زوجي".

تطالع بقهر جثامين أفراد عائلتها (داود أبو الكاس/الأناضول)
تطالع بقهر جثامين أفراد عائلتها (داود أبو الكاس/ الأناضول)

نجا الأطفال خليل أحمد ماضي ومحمود عبد الرحمن ماضي، وعبد الرحمن وشقيقه خليل محمد ماضي، من المجزرة الأولى، وعاشوا لعدة أشهر في كنف عمهم، لكن لاحقهم الاحتلال، وكاد أن يمسح العائلة كلها من السجل المدني. وفي فجر 27 سبتمبر/ أيلول الماضي، قصف الاحتلال بناية سكنية نزحوا إليها في دير البلح، مكونة من أربعة طوابق، وكانت تؤوي نحو 80 نازحاً. سقط الصاروخ في وسط الغرفة التي ينام فيها خليل وشقيقته حلا ووالده سهيل وطفلان يتيمان من أبناء عمه، لكن الصاروخ هذه المرة لم ينفجر، وشاء القدر أن يبقوا على قيد الحياة.
وقبل الحرب، كانت العائلة على أبواب ثلاثة أفراح، إذ تجهزت لزفاف العروس رهف في 17 أكتوبر 2023، وبعدها بشهر كان مقرراً زفاف أبني عمها، العريسين أحمد ومحمد عبد الرحمن ماضي، اللذين استبدلا بدلة الفرح بالكفن، وتحولت الأفراح إلى مآتم.
في حكاية عائلة أخرى، لم تدم فرحة محمود أحمد العروقي (32 سنة) الذي رُزق مولودَه أحمد خلال الحرب بعد عشر سنوات من الانتظار، وقبلها بسنتين رُزق طفلته آمنة، ليكتمل بناء العائلة، لكن الطفلين وأمهما سجى قضوا معه في استهداف جيش الاحتلال لمنزل العائلة في مدينة غزة مساء 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، في مجزرة راح ضحيتها 22 شهيداً من العائلة، علما أن المنزل كان يؤوي 70 نازحاً.
كان عبد الرحمن العروقي (22 سنة) وهو حارس منتخب فلسطين للشباب لكرة القدم، في الطابق السادس من البناية التي تهاوت بسبب القصف، ويروي لـ "العربي الجديد": "أطلقوا علينا صاروخين، وكان الظلام دامساً، وسقطت الطبقات فوق بعضها، وبقي طابق ونصف، ونجا من هم في الطوابق السفلية، وكان أكثر الشهداء في الطابق الرابع. وصلت فرق الدفاع المدني بعد نحو أربعين دقيقة بسبب خطورة التحرك، ولكون المنطقة مخلاة من سكانها. كنا قد نزحنا أيضاً، لكننا رجعنا قبل عشرة أيام، ونعتقد أن المنطقة أصبحت آمنة".

وإضافة إلى محمود وأسرته، استشهد شقيقه جهاد (27 سنة) الذي أصيبت زوجته وابنته، واستشهد شقيقه ساجد (17 سنة)، ومسحت عائلة ابن عمه محمود سليمان العروقي (28 سنة) من السجل المدني، إذ استشهدت معه زوجته شيماء حجي (23 سنة) وأبناؤهم سليمان (5 سنوات) ومريم (3 سنوات)، وطفلهم الرضيع سمير الذي وُلد قبل أسبوع واحد.
ولكل أسرة قصة مختلفة، فبعضهم كان يعيش الفرح الذي تحول إلى مأتم، وبعضهم كان يعيش الانتظار، كحال أحمد جهاد العروقي الذي استشهد بالمجزرة، ولم يرَ ابنه الوليد الذي كان برفقة زوجته وبقية أبنائه في جنوب القطاع، كذلك استشهد والده وأمه، وشقيقه سليمان، والأخير بُترت قدمه في بداية الحرب.
كان الطفل عماد محمد عقل (سنتان) هو الناجي الوحيد من مجزرة استشهد فيها والده وأمه الحامل في شهرها التاسع في 16 مايو/ أيار 2024 بمخيم جباليا، وهو حفيد عائلة العروقي من جهة الأم، لكنه لم يعش طويلاً، والتحق بعائلته التي مُسحت تماماً من السجل المدني.

المساهمون