ماذا تبقّى من الثورة التونسية في ذكراها الـ14؟

14 يناير 2025
من تظاهرة بذكرى الثورة، تونس، 14 يناير 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- انطلقت الثورة التونسية في 2011 مطالبة بإسقاط نظام بن علي، مما أدى إلى تغييرات سياسية جذرية وزيادة في الحريات، لكن تونس تواجه تحديات حالية مع اعتقال سياسيين وصحفيين.
- شهدت تونس أزمات سياسية متتالية، أبرزها في 2020 و2021، حيث قام الرئيس قيس سعيّد بإجراءات استثنائية أثرت على النظام السياسي ودور الأحزاب.
- رغم التحديات، يصر التونسيون على الحفاظ على مكتسبات الثورة، لكن الانقسام بين النخب والشارع يثير تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية في البلاد.

يوم 14 يناير/كانون الثاني من العام 2011، خرجت جحافل من التونسيين إلى شارع بورقيبة وسط العاصمة تونس، مدشنين الثورة التونسية عبر رفع شعارات واضحة ومباشرة إلى السلطة القائمة، "ديكاج" أي "ارحل"، أصلها في اللغة الفرنسية وتحمل الدعوة إلى إخلاء المكان ولكن بعنف أشد من "ارحل"، ورفعوا كذلك شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام" و"لا خوف، لا رعب، الشارع ملك الشعب". وانتهى الأمر بالتونسيين فعلاً إلى إسقاط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وبدء مرحلة تاريخية جديدة من حياتهم.

مع الثورة التونسية شهدت الحياة السياسية حالة انفجار غير مسبوقة، فتضاعف عدد الصحف والإذاعات والتلفزيونات، وتجاوز عدد الجمعيات المدنية الآلاف، والأحزاب المائتين، وانتظمت انتخابات تشريعية ورئاسية وبلدية شهد العالم على شفافيتها وحريتها. لكن بعد 14 عاماً على اندلاع الثورة، يقبع اليوم أمناء عامون لأحزاب، وصحافيون ومدوّنون وشخصيات سياسية في السجن، بلا محاكمة، ويُتهم بعضهم بالتآمر على أمن الدولة، في تهم يمكن أن تصل عقوبتها إلى الإعدام.

تراجعت حرية التعبير بسبب المرسوم 54 الذي يُعد سيفاً مسلطاً على الألسنة، ويوجد بسببه العشرات في السجون لمجرد تدوينة على "فيسبوك" أحياناً. المرسوم 54 الصادر في 2022، خصوصاً الفصل 24 منه، ينص على أنه "يُعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار (حوالي 18 ألف دولار) كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذباً للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان". ويعتبر حقوقيون أن تأويل فقرات هذا الفصل كبيرة وغير محددة، وتمنح السلطة حرية كبيرة في ملاحقة المتهمين. ولم تقتصر قائمة ضحايا هذا المرسوم على سياسيين أو معارضين، وإنما شملت مواطنين عاديين بسبب تدوينات بسيطة تنتقد بعض الأوضاع.

لم تهدأ الأوضاع بعد الثورة وبلغت الأزمة ذروتها بالإجراءات الانقلابية التي اتخذها سعيّد في يوليو 2021

أزمات ما بعد الثورة التونسية


لم تهدأ الأوضاع السياسية في تونس، ولم تتوقف الأزمات على مدى السنوات التي أعقبت الثورة التونسية. غير أن الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد في العامين 2020 و2021 كانت قاتلة، وقادت إلى تغيرات دراماتيكية في مسار الثورة وتاريخ البلاد. فبعد انتخاب الأستاذ الجامعي قيس سعيّد في انتخابات 2019 الرئاسية عقب وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي، شهدت البلاد خلافات مركّبة، بين سعيّد ورئيس البرلمان وقتها راشد الغنوشي من ناحية، وبين الغنوشي والمعارضين للإسلاميين وحلفائهم في البرلمان من ناحية أخرى، وأدى ذلك إلى تجميد الحياة الحكومية وتعطل المصالح، زادتها أزمة كورونا العالمية استفحالاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. لكن الأزمة بلغت ذروتها في 25 يوليو/تموز 2021 عندما أعلن سعيّد ما سماه يومها "إجراءات استثنائية"، جمّد بموجبها البرلمان قبل حله، وكذلك دستور 2014، وقام بحل المجلس الأعلى للقضاء وهيئة مكافحة الفساد وهيئة الانتخابات وغيرها من المؤسسات.

وكتب بنفسه دستوراً جديداً ووضع نظاماً سياسياً جديداً يقوم على ما يسميه بالبناء القاعدي، وأقر الانتخاب على الأفراد وليس القوائم، ما أفقد الأحزاب فعاليتها بوضوح وأنهى دورها تقريباً. ودخل سعيّد في خلافات مع من يصفهم بـ"الخونة" و"المتآمرين على البلاد"، وقاد ذلك إلى وضع العديد من القادة السياسيين في السجن. وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها تونس في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أُقصي مرشحون من الانتخابات وتمت ملاحقة العديد منهم قضائياً، وتمكن سعيّد من الفوز بالانتخابات بأغلبية قصوى من الدور الأول ليوطّد أركان حكمه. غير أن الأزمة السياسية في البلاد لا تزال متواصلة. صمتت الأحزاب، وتراجع دورها، حتى تحدث البعض عن "موت السياسة في تونس". ويتساءل التونسيون اليوم، ماذا بقي من الثورة التونسية اليوم؟ هل انتهت فعلاً أم أنها لا تزال تنبض، ولو ببطء؟ وهل أن هذا الانكسار هو مجرد قوس طبيعي في مسار كل الثورات؟

في بيانها الذي دعت فيها إلى التظاهر اليوم الثلاثاء، أكدت الشبكة التونسية للحقوق والحريات أن "هذا التحرك يأتي لتجديد التأكيد أن الثورة التونسية لا تزال حية ومستدامة، وللإصرار على صون مكتسباتها المتمثلة في تعزيز الحريات وحماية الحقوق المدنية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية". وتصر المعارضة على الخروج والتظاهر يوم 14 يناير، على الرغم من أن سعيّد يريد إلغاء هذا التاريخ. وقد سبق له أن اعتبر بكل وضوح في تصريح سنة 2021 بقصر قرطاج أن "عيد الثورة هو يوم 17 من ديسمبر (2010 يوم أحرق محمد البوعزيزي نفسه) وليس يوم 14 يناير"، الذي اعتبره "تاريخ إجهاضها". وإلى جانب الشبكة التونسية للحقوق والحريات، دعت جبهة الخلاص الوطني إلى التظاهر أيضاً اليوم الثلاثاء، غير أن الفريقين لن يجتمعا في مكان وتوقيت واحد، بما يؤكد هذا الانقسام المتواصل في صفوف المعارضة التونسية حتى في أبسط المسائل.

عبد العزيز لبيب: ما من ثورة وحققت أهدافها في وقتها. أما آثارها فتتسرب إلى الكيان وتفعل فعلها على المدى البعيد

هوة بين النخب والشارع

الكاتب التونسي، أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية، عبد العزيز لبيب، أكد في حديث لـ"العربي الجديد" أنه "كان ممكناً لما حدث في 17 ديسمبر 2010 أن يُؤخذ مأخذ حادثٍ محلي عابر تخبو صورته بمرور الوقت، ومأخذ غضب فردي يرجع على النفس بالهدم الذاتي فيُنعت بشتى نعوت الاستنقاص من دون أن يتعكر المجرى الاعتيادي للحياة العامة. ولكن عقارب الساعة ستتوقف هذه المرة، وقيمة 17 ديسمبر في آثاره التي لولاها لبقي ذلك اليوم حدثاً عابراً بلا معنى، فـ14 يناير هو الذي أكسب 17 ديسمبر معناه حتى وإنْ بترَه من بُعده الاجتماعي العميق عندما اختزله في البعد الحقوقي. وهذا ما يعطي حجة لمن يعتبر 14 يناير التفافاً على البعد الاجتماعي لـ17 ديسمبر". وعن التساؤل الذي يُطرح اليوم في تونس، ماذا بقي من الثورة، قال لبيب: "بقي معناها الدفين في ضمائر الأجيال، وفي لا وعيهم؛ ما من ثورة وحققت أهدافها في وقتها. أما آثارها فتتسرب إلى الكيان وتفعل فعلها على المدى البعيد".

ويُطرح السؤال عميقاً حول النخبة السياسية التي ضيّعت، بخلافاتها وانقساماتها المتواصلة، الثورة التونسية التي كانت تُعد لحظة تاريخية فريدة في المنطقة، وهي اليوم تدفع ثمن ذلك غالياً، ويقبع العديد من قادتها في السجون. ومع الثورة التونسية جاءت المناسبة الفريدة لسد الهوة بين النخب، والجموع، لكن كل طرف ظل غريباً على الآخر، وعادت الجموع من حيث أتت وكأنّ تدبير السلطة لا يعنيها. كما كشف واقع الأمر كيف أن أكثر النخب كانت من قبل تنشد الحريات والديمقراطية لنفسها طلباً لموقع في السلطة. أما من جهة الجموع الشعبية، فالخيبة كانت أكبر لأن الديمقراطية صاحبها تدهور في شروط العيش: من شغل، وتعليم، وصحة، وأمان.

ماهر حنين: 14 عاماً في عمر الثورة التونسية بالمعنى التاريخي الشامل في عمر الثورات، تبقى مدة غير كافية للتقييم

مراحل مهمة وتداعيات مستمرة

الباحث في الفلسفة الاجتماعية ماهر حنين، صاحب كتاب "مجتمع المقاومة، ما بعد الإسلاموية، ما بعد البورقيبية، ما بعد الماركسية"، اعتبر في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "14 عاماً في عمر الثورة التونسية بالمعنى التاريخي الشامل في عمر الثورات، تبقى مدة غير كافية للتقييم، على الرغم من أنها قد تكون مدة طويلة على الفاعلين، وعلى الجيل الذي يعيش الثورة في تفاصيلها المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالتحولات سريعة ومتسارعة بالنسبة إليهم". لكنه أضاف: "في نظر المؤرخ 14 سنة بالتحوّلات الكبرى تبقى غير كافية، ومع هذا يمكن القول إن هناك ثلاثة استخلاصات أساسية، فالثورة التونسية كانت أول ثورة سياسية مدنية سلمية في العالم الحديث في القرن الـ21، وهذا البريق نأمل ألا تخسره الثورة التونسية". وأوضح أن "الثورة التونسية قطعت مراحل مهمة ومختلفة في 2011 و2014 و2018 و2019، فعرفت انتخابات بلدية وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة في ظل مجتمع مدني حي وفي حياة تعددية حزبية، وكان هناك أكثر من 100 حزب، وزخم كبير من الأحزاب التي شاركت في السنوات الأولى للثورة".

واستدرك أن "الثورة التونسية أيضاً كانت فيها خيبات تتعلق بعجز المؤسسات عن استيعاب التحوّلات العميقة في المجتمع، خصوصاً المنبثقة عن انتخابات 2011 ونسبياً عن انتخابات 2014، وعدم تأسيس المحكمة الدستورية والعدالة الانتقالية واحترام حقوق الإنسان والأقليات وصعود الفكر التكفيري ونظرية التغوّل في مفاصل الدولة والتهديدات الإرهابية التي عاشتها تونس، وكذلك الفشل الذريع في التعهد بالمسألة الاجتماعية وتلبية المطالب الأساسية للفقراء والمعطلين والجهات الداخلية وكل ما يتعلق بالملف الاجتماعي بمختلف أبعاده". وعن دور النخب السياسية الذي تُتهم بأنها ضيّعت الانتقال الديمقراطي، بيّن حنين أن "النخب تتحمّل مسؤولية، ولكن لا يمكن اعتبار المسؤولية من جهة واحدة، فالنخب لم تكن جاهزة للمسار الانتقالي، كما أن الظرف الإقليمي لعب دوراً كبيراً، إضافة إلى تعقّد المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وعدم توفر إرث ديمقراطي مؤسساتي راسخ في المجتمع لعب أيضاً دوراً"، مضيفاً "يمكن القول إن عودة التسلط والخوف والرأي الواحد لعب أيضاً دوراً كبيراً لأن المجتمعات الديمقراطية تتعلم وتخطئ وتخوض تجارب، وهذا قد يتطلب عقوداً".

واعتبر أن "إيقاف هذه التجربة وتعطيلها، على الرغم من مرارتها، سيعني تأخراً في المجتمع، بمعنى أننا نفضّل تجربة ديمقراطية متعثرة، بما تتضمنه من محاسبة للنخب وللمجتمع، أفضل من تعطيل التعلم الديمقراطي أو التدرب الديمقراطي بما هي ثقافة شاملة، لا تتعلق فقط بانتخاب المؤسسات بل بالأفراد والعلاقات بين مختلف المكونات"، موضحاً أن "إيقاف هذه التجربة والعودة إلى الرجل والمنقذ الأوحد والرأي الواحد وكأننا غير قادرين على حياة سياسية، لا يساعد على ترسيخ ثقافة ديمقراطية، ويشجع على الانسحاب من الحياة العامة وهذا خطير". وحول ما يبدو أنه انسحاب للتونسيين من الشأن العام ومقاطعة الحياة السياسية، أوضح المختص في علم الاجتماع أن "مسألة الانسحاب أو مقاطعة الشباب، والمسافة بين الأجيال الجديدة والتمثيلية الديمقراطية من أحزاب وانتخابات، هي مشكلة عالمية وليست تونسية فقط، وقد تصبح أكثر تأثيراً عندما تتعلق بالمجتمعات التي ليست لها تقاليد ديمقراطية راسخة".

وأضاف أن "عدم المشاركة في الحياة السياسية من انتخابات وأحزاب وجمعيات ونقابات، لا يعني أن الشباب غير مسيّس، فهناك مجالات لتسيّس الشباب قد لا تبدو على سطح الحياة الاجتماعية ولكن تظهر في مختلف التعبيرات الثقافية وأغاني الملاعب الرياضية والراب والتعبيرات في السينما ومختلف الأشكال الجديدة في الإعلام البديل، وهي كلها تعبيرات شبابية تؤكد الرغبة في كسر الأُطر التقليدية والفعل السياسي". وتابع: "عندما لا يُبرز المشهد الإعلامي هذا الزخم وهذه التحولات السلوكية والقِيَمية فإن هذا يصبح غير مرئي وكأنه غير موجود، ولو كان هناك أي شكل تعبير فربما نفاجَأ أن الشباب يعبّر بأشكال مختلفة عن آرائه وطموحاته".

وعن تواصل الصمود في تونس، على الرغم من ضعفه، وبخصوص التحولات التي يشهدها العالم، قال حنين إن "العالم ككل يعيش تحوّلات، كوريا الجنوبية وبنغلاديش وسريلانكا، والأزمة السياسية في فرنسا، وانتصار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب المفاجئ، فالعالم في مخاض، مما يدل على أن الديمقراطية التمثيلية التقليدية التي فيها دور للأحزاب والإعلام والمال والدعايات السياسية في مأزق، كم أن هناك تحولات كبيرة في المنطقة، وما حصل في سورية يُعتبر زلزالاً كبيراً لأنه بيّن أن التدخلات الجيوستراتيجية والسياسية يمكن أن تلعب دوراً في أي لحظة". وتابع: "لا يمكن إنكار حالة الفرح في سورية لسقوط نظام بشار الأسد، والتي تم التعبير عنها بوضوح، أما الحديث عن أن السوريين تنتظرهم أيام صعبة فهذا طبيعي، فقد مرت مصر والجزائر في التسعينيات والمغرب بموجات انتفاضات شعبية، ولكل بلد سياقه التاريخي والجغرافي وخصوصياته، ولكن الخوف من أن تعيش منطقتنا إعادة تقسيم جديد على أساس طائفي وديني ومناطقي وتضعف أكثر المجتمعات العربية وتضيع في خضم ذلك القضية الفلسطينية".

المساهمون