سواء أكان ترامب جاداً أم لا.. إسرائيل تعرف ما تفعل

24 فبراير 2025
جيش الاحتلال يشرد سكان مخيم جنين بعد تدمير بنيته التحتية 14 /2 /2025 (ناصر إشتية/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تصريحات ترامب حول تهجير الفلسطينيين من غزة وتحويلها إلى "ريفيرا الشرق الأوسط" قوبلت برفض إقليمي ودولي، لكن الردود لم تتجاوز الكلام ولم تؤثر فعليًا على الوضع.
- إسرائيل تهيئ الظروف لتحقيق تهجير الفلسطينيين من خلال الحصار والحروب، مما يدفعهم للهجرة بحثًا عن حياة أفضل، محققة أهداف المشروع الصهيوني دون تهجير قسري.
- في الضفة الغربية، تستخدم إسرائيل سياسات التدمير والضغط الاقتصادي لخلق ظروف "الهجرة الطوعية"، مما يعقد تحقيق حلول سياسية مستقبلية مثل حل الدولتين.

أثارت تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال لقائه مع رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، حول تهجير أو "نقل" الفلسطينيين من قطاع غزّة إلى دولٍ أخرى، وتحويل القطاع إلى "ريفيرا الشرق الأوسط"، موجةً عارمةً من ردود الفعل الإقليمية والدولية الرافضة رفضًا قاطعًا لفكرة تهجير الفلسطينيين. هنا من المهم الإشارة إلى أن كلّ ردود "الكلام" وليس الفعل، التي صدرت عن مختلف الدول والقوى لا تساوي شيئًا عند ساعة الحقيقة، فلا داعي لنعود طويلًا إلى تاريخ التصريحات والقرارات مع القضية الفلسطينية حتّى ندرك أنها لا تساوي شيئًا، بل يكفي أنّ ننظر إلى كلّ التصريحات الإقليمية والدولية الرافضة للإبادة في قطاع غزّة خلال خمسة عشر شهرًا من عمر الحرب، التي لم تؤدِ حتّى إلى تقليل كمية القتل والتدمير اليومي، وليس وقفه، ولم تفلح في إقناع دولة الاحتلال بإدخال الغذاء والدواء لأهل القطاع المحاصر والمُباد.

لذلك، فالتعويل على الرفض الدولي، حتّى إن صدر عن قوى عظمى، مثل الصين وروسيا والاتّحاد الأوروبي، غير ممكنٍ، وهو كارثةٌ إن كان ورقة القوّة الوحيدة التي نركن إليها، إذ ترغب كلّ الأطراف في تسجيل موقفٍ، أو التأكيد على موقفٍ لا جديد فيه، ولا آليات أو إرادةٍ أو قدرةٍ على تنفيذه.

لا يعني ذلك أن ما قاله ترامب أصبح قدرًا محتومًا، كما أن تنفيذه مجرد مسألة وقتٍ، فكما هو معلومٌ لدى الدول العربية المستهدفة بتهجير الفلسطينيين إليها، حسب ترامب وإسرائيل من قبله، حساسيةً مفرطةً تجاه اللاجئين الفلسطينيين، نظرًا إلى التاريخ المضطرب للوجود الفلسطيني في دول الطوق، والخشية من تحمل تلك الدول تبعات استقبال اللاجئين الفلسطينيين على استقرارها الداخلي. ومن ناحيةٍ أخرى، ما يزال طرح ترامب مجرد تصريحاتٍ تخلو من آليات عملٍ وتنفيذٍ "أميركيةٍ".

ربّما لم يكن يعني الإسرائيليين من تصريحات ترامب سوى كلمة "التهجير" نفسها، بصيغها المختلفة، أما بقية الأفكار والتصورات التي طرحها حول مستقبل غزّة فهي مجرد مساحيق تجميلٍ لا أكثر في نظرهم.

بنظرةٍ إلى الوضع في الضفّة الغربية نجد أنّ سياسة التدمير الممنهج، وخلق ظروف التهجير الموضوعية، أو "الهجرة الطوعية"، قد بدأت تطبق فيها بصورةٍ متسارعةٍ

برر ترامب طرحه وغلّفه باعتباراتٍ إنسانيةٍ، قد تبدو محقةً، إن أسقطنا كلّ السياقات المرافقة لها، فأهل غزّة يعيشون في ضنك العيش منذ قرابة العقدين (بفعل الحصار الإسرائيلي)، ويتعرضون على الدوام لحروبٍ وجولات تصعيدٍ، وقد أتت حرب الإبادة الجماعية لتقضي على كلّ مقومات الحياة في القطاع، وتدمر كلّ البنى التحتية والصحية والتعليمية والسكنية وما إلى ذلك. فعليًا خلقت إسرائيل الظروف الموضوعية، والشروط الضرورية لتحقيق فكرة التهجير، ومن غير المؤكد إن كانت عملية إعادة الإعمار ستنفذ من الأساس، أم إن كانت ستنفذ في مدى زمني منطقي يتيح للناس البقاء في أرضهم.

هنا مربط الفرس، فهذه الأزمة الإنسانية المصطنعة، التي هندستها إسرائيل بكلّ احترافيةٍ، هدفًا أساسيًا من أهداف الحرب، كي تؤدي إلى النتيجة التي يطالب بها ترامب، التي هي في الأساس جوهر المشروع الصهيوني، وهي مدخل التهجير الفعلي، وليس ما طرحه ترامب.

فسواء أصرّ ترامب على طرحه أم تراجع عنه، أم نفّذ بعضه وترك بعضه، فالبنية التحتية للتهجير جاهزةٌ وفعّالةٌ، وليس بالضرورة أن يكون التهجير قسريًا وجماعيًا، إنّما يكفي أن تتاح للناس إمكانية الخروج والبحث عن مستقبلٍ أفضل، أو على الأقلّ عن مستقبلٍ خالٍ من الموت، فيه مقومات الحياة الأساسية، على اعتباره نوعًا من أنواع "الخلاص الفردي".

من المهم أن تظلّ فكرة "الهجرة الطوعية" حاضرةً في أذهاننا ونحن نناقش إمكانية التهجير، لأنّنا نتحدث عن طرحٍ إسرائيليٍ متأصلٍ منذ عام 1967، أخذ يتصاعد في الخطاب الإسرائيلي، اليميني على أقله، منذ تسعينيات القرن المنصرم، قبل أن يطرحه بتسلئيل سموتريتش خطةً سياسيةً عام 2017. هذا الخيار ليس بحاجةٍ لموافقة الدول العربية المجاورة، كونها لن تكون المستهدفة به، كما سيكون عمليةً طبيعيةً تحدث في العالم كلّه، الذي يشهد عمليات هجرةٍ شرعيةٍ و"غير شرعيةٍ" متناميةٍ في السنوات الأخيرة.

تعالت الأصوات الإسرائيلية خلال حرب الإبادة، على وقع التدمير والقتل والحصار، مناديةً بتطبيق فكرة "الترانسفير/الهجرة الطوعية"، أو "تشجيع الهجرة" سواء من قطاع غزّة أم الضفّة الغربية أم أراضي 48، مستعجلين جباية ثمن الجرائم الصهيونية بحقّ الشعب الفلسطيني. فكرة "الطوعية" هنا هي مجرد تفذلك/ تذاكٍ صهيوني مفادها إجبار الفلسطينيين على الرحيل نتيجة انعدام مقومات الحياة، أو ضيقها، أو نتيجة الخوف وانعدام الأمن، وغير ذلك من الأمور التي تضطر الإنسان إلى مغادرة وطنه، سواء أكانت هجرةً فرديةً أم جماعيةً، أو سواء كانت بقرارٍ واعٍ من صاحبها أم اتخذ قراره تحت تهديد السلاح، فهي تظلّ تهجيرًا قسريًا ناتجًا عن مشروعٍ استيطانيٍ يستهدف محو السكان الأصليين بشتى السبل والوسائل، وقد عبّر وزير الاتصالات الإسرائيلي، شلومو كارهي، ذات مرّةً عن هذه السياسة باقتباسه لقاعدةٍ شرعيةٍ من الديانة اليهودية تقول: "أرغمه حتّى يقول أنا أريد".

بنظرةٍ إلى الوضع في الضفّة الغربية نجد أنّ سياسة التدمير الممنهج، وخلق ظروف التهجير الموضوعية، أو "الهجرة الطوعية"، قد بدأت تطبق فيها بصورةٍ متسارعةٍ، مع أنّ تهجير السكان الفعلي في الضفّة الغربية أسبق من نظيره في قطاع غزّة، عبر وسائل مختلفة، منها عنف المستوطنين، الذي أدى إلى تهجير عشرات التجمعات البدوية منذ عام 2022.

الأزمة الإنسانية المصطنعة، التي هندستها إسرائيل بكلّ احترافيةٍ، هدفًا أساسيًا من أهداف الحرب، كي تؤدي إلى النتيجة التي يطالب بها ترامب، التي هي في الأساس جوهر المشروع الصهيوني

في ظل العملية العسكرية الإسرائيلية "السور الحديدي"، التي ينفذها الاحتلال في شمال الضفّة الغربية، وبمشاركة السلطة الفلسطينية، فإن سياسة التدمير ستستمر وتتوسع بأنماطٍ مختلفةٍ. كما تترافق مع جملةٍ من الخطوات الهادفة إلى خنق الفلسطينيين اقتصاديًا، وعلى الحواجز، وعبر عنف المستوطنين المتصاعد، وغير ذلك من السياسات التي تتمحور حول هدف دفع الناس نحو الهجرة والبحث عن "الخلاص".

الملاحظ أن إسرائيل تطبق حاليًا في الضفّة الغربية ما اختبرته طيلة خمسة عشر شهرًا من عمر حرب الإبادة في قطاع غزّة، خصوصًا مشاهد تدمير البنية التحتية، والمربعات السكنية، وإجبار الناس على النزوح القسري، كما تمكنت من فعل ذلك في القطاع من دون أيّ تبعاتٍ فعلية تردعها عن إجرامها، فإنّها تنفذه في الضفّة الآن من دون أن تخشى أي ردة فعلٍ. وبالنظر إلى واقع إعادة الإعمار في قطاع غزّة، فإنّه من المنطقي الافتراض أن مسألة إعادة إعمار ما سينتج عن العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفّة من تدمير؛ لن تختلف عن المآل الذي ستؤول إليه إعادة الإعمار في غزّة.

نعود للإشارة هنا إلى أنّ الهجرة/ التهجير الطوعي ليست أمرًا مفروغًا منه، بل ستظلّ أمامها عقباتٌ كبيرةٌ، لكن إسرائيل تستمر بالعمل لجعلها الخيار الوحيد أمام الفلسطينيين، عبر تهيئة الظروف الموضوعية لتحقيقها. هذا الأمر يتطلّب ألا تؤخذ تصريحات ترامب، والتصريحات الإسرائيلية إلّا على محمل الجد، والاهتمام بما يجري على الأرض من تطوراتٍ وتحولاتٍ يوميةٍ متسارعةٍ، تغذّ الخطى نحو "حسم الصراع". وبمقارنة طرح ترامب مع "إعلان بلفور"، فإن ذلك الإعلان كان مجرد غطاءٍ سياسيٍ، كما هو طرح ترامب، ولكن تنفيذه لم يكن ممكنًا لولا جملة التحولات على الأرض، التي لا تقتصر على الاحتلال البريطاني لفلسطين، وفرض الانتداب عليها، إنّما تشمل العمل الصهيوني اليومي والمستمر لجعله واقعًا فعليًا، سواء من خلال الاستيطان والاستيلاء على الأراضي، أم من خلال إعداد البنية التحتية لمشروع التهجير وإقامة الدولة. هذا هو عين ما تفعله إسرائيل حاليًا سواء في قطاع غزّة أم في الضفّة الغربية، ضمن سياسة فرض الوقائع على الأرض، التي أدت، من ضمن أمور أخرى، إلى جعل مبدأ "حلّ الدولتين"، على سبيل المثال، فكرةً منفصلةً عن الواقع.

المساهمون